أزمة الخبز في سوريا 2025: حين يتحول الرغيف إلى رفاهية

تصاعدت أسعار الخبز في سوريا منذ بداية عام 2025، بوتيرة غير مسبوقة، لترتفع من 500 ليرة سورية إلى 4,000 ليرة خلال شهر واحد فقط، ولا يمثل هذا الارتفاع مجرد قضية غذائية، بل مرآة لانهيار مشروع الدولة الاجتماعية واستمرار النخبة الحاكمة في تصدير فاتورة الأزمة نحو الطبقات المسحوقة.

الخبز في قلب الصراع الاجتماعي

الخبز ليس فقط مادة غذائية يومية في سوريا، بل رمز لعقد اجتماعي هش طالما فاخرت الحكومات السورية المتعاقبة بالحفاظ عليه، غير أن التخلي التدريجي عن دعم الخبز ليس ظاهرة اقتصادية معزولة، بل عملية سياسية بامتياز تُظهر استمرارية تحوّل النظام نحو النيوليبرالية القسرية التي تفرض كلفتها على الفئات الأضعف.

في ظل تراجع الدعم الحكومي، تحوّل الخبز من سلعة مدعومة إلى عبء مالي ينهك جيوب السوريين، خاصة في الأرياف والمناطق التي عانت من التهميش الهيكلي لعقود، وبينما يتحدث الإعلام الرسمي عن “إصلاحات ضرورية”، تكشف الوقائع عن نهج تعسفي يفرّغ مفاهيم السيادة الغذائية والعدالة الاجتماعية من مضمونها.

تفكيك المسببات: أكثر من مجرد أزمة خبز

تُظهر الوثائق والتقارير أن العاملين الرئيسيين وراء ارتفاع الأسعار هما: نقص القمح، وتخفيض الدعم، ويجب عدم قراءتهما بشكل معزول، فنقص القمح مرتبط بتراجع الإنتاج المحلي بسبب الإهمال المزمن للقطاع الزراعي، والجفاف، وخروج مساحات زراعية واسعة عن السيطرة المركزية، وخاصة في الشمال الشرقي.

أما تقليص الدعم، فيأتي ضمن إطار أوسع من السياسات التقشفية التي تُفرض بلا رقابة مجتمعية أو تمثيل ديمقراطي، وتُبرر الحكومة هذه الإجراءات بـ”ترشيد الإنفاق”، لكنها في الواقع تعكس خضوعا لاشتراطات غير معلنة لممولين خارجيين، أو محاولات لضبط العجز المالي بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب الأمن الغذائي.

من الخبز إلى الصراع على البقاء

الارتفاع الحاد في أسعار الخبز زاد من معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، لكنه أيضا عمّق الإحساس بالعجز الجماعي، حيث باتت الأسرة السورية تقاوم يوميا من أجل لقمة العيش، في ظل انعدام الحماية الاجتماعية وانسداد الأفق السياسي.

ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل إعادة إنتاج متسارعة للاقتصاد قائم على التفاوت الطبقي الصارخ، والفئات الضعيفة من عمال زراعيين، وأرامل، تُدفع نحو الهامش، بينما تواصل شبكات النفوذ الاقتصادية جني الأرباح من السوق السوداء، والامتيازات في قطاع القمح والطحين.

نحو تفكيك النظام الغذائي السلطوي

تعكس أزمة الخبز الراهنة فشل النظام السوري في تقديم أي نموذج اقتصادي قابل للحياة بعد أكثر من عقد من الحرب، وكشفت محاولات تحرير سعر الخبز عن هشاشة الدولة، لا قوتها، فبدلا من السعي لبناء زراعة مستدامة، أو شبكات توزيع عادلة، تترك الأسواق تعمل بحرّية لصالح الأقوياء.

ما يتطلبه الوضع الآن ليس مجرد ضخ مساعدات غذائية، بل مساءلة سياسية حول أولويات الإنفاق، وإعادة الاعتبار لدور الدولة كضامن للحد الأدنى من الحياة الكريمة، لا كوسيط بين المواطنين والمانحين الدوليين، فالسياسات الزراعية، ودعم القمح، والأمن الغذائي جزء من عملية إعادة بناء تشاركية، لا أداة في يد طبقة حاكمة تعيد إنتاج نفسها عبر الأزمات.

ارتفاع أسعار الخبز في سوريا اليوم ليس حادثة اقتصادية فريدة، بل تعبير عن اتجاه بنيوي يتعمق في ظل اقتصاد مدمر، ودولة مفككة، ومجتمع دولي متواطئ أو عاجز، بحيث أتت لقمة العيش أداة للحكم أكثر منها حقا من حقوق الإنسان.

إن مقاومة هذا الاتجاه تبدأ أولا بفهم طبيعة الأزمة: ليست فقط أزمة خبز، بل أزمة إدارة دولة تستمر بإعادة ربط القضايا المعيشية بالعدالة السياسية، والمحاسبة، وحق المواطنين في تقرير مصيرهم الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن منطق الترويض والتجويع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *