أول ظهور علني لقائد “أُولي البأس”: مسرحيات سياسية أم تغير في موازين القوى؟

خرج “أبو جهاد رضا” قائد تنظيم “أُولي البأس” من الظل إلى دائرة الضوء، معلنا نفسه وجبهته كلاعب جديد في الحرب السورية، لكن خلف نبرة التحدي والمصطلحات الشعبوية، تقبع أسئلة حادة تحتاج تفكيكاً دقيقا: من هم هؤلاء؟ من يدعمهم؟ ولماذا الآن؟

غموض مُفتعل أم هندسة إعلامية؟

ظهور “أُولي البأس” في يناير الماضي لم يثر الكثير من الضجيج، التنظيم وُلد في الظل واحتفظ بهويته كـ”شبح مقاوم”، وعبر أسلوب مستوحى من استراتيجيات حركات سبقته مثل “حزب الله” في الثمانينات أو “سرايا الدفاع” في العراق بعد الغزو الأميركي.

ضمن توقيت مدروس، نسمع لأول مرة صوت “رضا حسين”، وهو اسم رمزي لرجل قادم من تاريخ عسكري باهت، حيث يوحي توقيت المؤتمر العلني الأول (مايو 2025) وتقديم تسجيل صوتي حصري لوسيلة إعلام محلية، بتنسيق مع شبكات نفوذ داخل العاصمة دمشق، لكن لماذا يُسمح لمؤتمر عسكري بهذا الحجم في قلب سيطرة النظام دون رد؟ إما أن هناك اختراقاً غير مسبوق، أو أن الرواية ليست كاملة.

ما طُرح كـ”كشف لقيادات سياسية وعسكرية” يبدو أقرب إلى رسم توازنات داخلية بين كتل تحمل خلفيات مختلفة: فلسطينية، بعثية سابقة، وجزء من التيارات الرديفة للنظام، وهذه الشخصيات الجديدة كـ”محمود موالدة” و “وبتول بدر” لا تحمل سجلا واضحاً في مشهد المعارضة المسلحة أو السياسية، ما يثير احتمال أن التنظيم يعيد تدوير كوادر قديمة ضمن غلاف “مقاومة وطنية”.

خطاب المواجهة: ضد الاحتلالات… لكن من يقصد؟

رضا يؤكد رفض التبعية للخارج، ومعارضة “الاحتلالات كافة”، لكنه لا يسمي المحتل بوضوح، باستثناء تلميحات مبطنة إلى “إسرائيل”، تركيا، وحتى النفوذ الأميركي، واللافت أنه في تصريحاته لم يهاجم النظام السوري صراحة، بل ركز على “من باع الأرض باسم السياسة”، وهي عبارة يمكن تأويلها بعدة اتجاهات،

وهذا الأمر يثير إشارات استفهام حول طبيعة هذا الخطاب الذي يتأرجح بين المناورة لكسب أنصار من داخل النظام السابق، ومحاولة للتمايز عن الفصائل الجهادية التقليدية، فاللغة المستخدمة تنتمي لمدرسة الحركات الشعبوية المسلحة: غضب موجه بلا تحديد، وشعارات توحي بالقوة بينما تتجنب العداء الصريح لأي طرف قد يُفترض أنه راعٍ أو ميسر.

نوعية الخطاب أتت مع آلية في تشكيل “مجلس عسكري موحد” يضم فصائل مثل “درع الساحل” و”المقاومة الشعبية السورية”، ويبدو محاولة لإعادة تأهيل بقايا فصائل فقدت دعمها، والعميد المنشق منذر.و، الذي تولى القيادة العسكرية، ليس اسما جديدا لكنه يفتقر إلى الحضور الميداني النشط في السنوات الأخيرة.

فإذا كان الهدف إنشاء هيكل مقاومة فعلي، فإن اعتماد التنظيم على عناصر من الجيش السوري السابق والقوات الرديفة يفتح الباب أمام سيناريوهين متناقضين: إما اختراق داخلي ممنهج، أو استراتيجية تشبه “الصحوات” التي استخدمتها أميركا في العراق التي تقوم بتحالف مع العدو السابق لاحتواء الخطر الأكبر.

التنظيم الشبكي: مقاومة أم تفكيك للسيطرة المركزية؟

أحد أخطر ما ورد في خطاب “رضا” هو تأكيده على العمل ضمن “غرف تنسيق شبكية غير مركزية”، ما يشير إلى هيكل يصعب تتبعه أو احتواؤه، ويتوافق مع تقنيات حرب الجيل الرابع المعتمدة على شبكات فضفاضة، تعتمد على استقلالية الخلايا، وفعالية في التغلغل داخل المجتمعات المحلية.

هذا النمط يحمل تهديداً حقيقياً لأي بنية سياسية أو عسكرية قائمة، سواء كانت للإدارة الجديدة أو للفصائل التقليدية، فإذا صحّت الرواية، فإننا أمام تنظيم يخطط لحرب طويلة لا تعتمد على السيطرة بل على الاستنزاف والتشويش.

واللافت في خطاب “رضا” أنه لم يعلن عداء مباشرا لحكومة أحمد الشرع (الجولاني)، بل وصفها بـ”الكيان الهش”، مفضلاً المواجهة السياسية لا العسكرية، وهذه لهجة غير مألوفة في عالم الفصائل المسلحة، وتعكس إدراكاً لحجم التكاليف التي ستترتب على صراع مباشر مع “هيئة تحرير الشام”، كما أن الاعتراف الضمني بدور الجولاني في “منع التقسيم” مؤشر على محاولة لاستمالة جمهور إدلب والريف الشمالي، دون استفزاز القواعد المسلحة الموالية للهيئة.

ما يحاول “أُولي البأس” تقديمه هو سردية مقاومة محدثة، تحمل مزيجا من الانتماء الوطني والخطاب العابر للطوائف، والتقنيات التنظيمية الحديثة، لكن في غياب دلائل ميدانية قوية، وفي ظل غموض مصادر التمويل والدعم، يظل التنظيم أقرب إلى “كيان وظيفي” محتمل أو أداة لإعادة خلط الأوراق، أكثر منه مشروع مقاومة حقيقي.

التحقق من مصداقية هذا التنظيم لن يتم عبر تحليل خطاباته، بل من خلال تتبع تحركاته على الأرض، وتقنياته في التجنيد، ومواقعه العملياتية، واليوم يبقى “أُولي البأس” لغزاً آخر في فسيفساء سوريا المتشظية، فهو يتأرجح بين يغيّر اللعبة، أو الانتهاء كفقاعة إعلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *