من يقرأ إيران كحالة سياسية فقط، يخطئ في فهمها، فالجغرافيا الإيرانية وفق نظرية كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا” هي التي تحدد مصير البلاد، لا طبيعة النظام أو توجهاته الأيديولوجية. ولهذا، فإن أي سيناريو لانهيار النظام في إيران يجب أن يُفكك من خلال الجغرافيا أولا، لا من خلال السياسة وحدها.
إيران: قلب صلب في وسط آسيا اللين
تقع إيران على مفترق الطرق بين آسيا الوسطى، الخليج العربي، وشرق المتوسط، وهي بذلك ليست مجرّد دولة محاطة بجيران متعددي الثقافات والمصالح، بل تمثل ما يمكن تسميته بـ”صلة جيولوجية حيوية” تربط بين ثلاث كتل جيوسياسية كبرى: الامتداد الروسي القوقازي، القلب التركي – العربي، والمجال الباكستاني – الهندي.
على هذه الرقعة، تتقاطع خطوط الأنابيب، وممرات التجارة البرّية، والبوابات البحرية، كما تتشابك الهويات المذهبية والإثنية ضمن مساحات تماسّ قابلة للاشتعال، فإيران ليست دولة عازلة فقط، بل دولة رابطة، وهي تمارس تأثيرا مركّبا نابعا من تضاريسها كما من سياساتها؛ حيث الجبال تحمي من الغزو، والهضاب تعزل المناطق، والمضائق تُمسك بخناق التجارة العالمية، فهي منصة جغرافية لا يمكن القفز فوقها، بل يجب التعامل معها كجسر أو حاجز، بحسب موقع من يخطط أو يتدخل.
- من بحر قزوين إلى الخليج، تمسك إيران بمفاتيح جغرافية بالغة الحساسية: مضيق هرمز، شواطئ الخليج، سواحل بحر عمان، والحدود مع أفغانستان والعراق.
- هذه المواقع ليست تفضيلات دبلوماسية؛ بل أقدار جيولوجية. من يسيطر عليها يملك أوراسيا، أو على الأقل يستطيع تعطيلها.
إن أي حديث عن انهيار الدولة الإيرانية من الداخل، دون تدخل خارجي مباشر ومستمر، يبقى في معظمه أمنيات سياسية أكثر منه احتمالا واقعيا، فالجغرافيا الإيرانية توفر للدولة عمقا دفاعيا يصعّب على أي حركة داخلية أن تُطيح بالنظام بشكل شامل وسريع.
حتى لو اندلعت اضطرابات أو ثورات محلية، فإن التضاريس الصعبة، وتوزيع السكان، وهيمنة المركز على مفاصل الاتصال، كلها تجعل من سقوط النظام “بالمطلق” مهمة شاقة تحتاج أكثر بكثير من مجرد احتجاجات أو عزلة سياسية، فالجغرافيا هنا ليست خلفية للأحداث، بل جداراً طبيعياً يصدّ الانهيار ما لم يكن هناك دفع خارجي كبير ومستمر لكسره.
الطقس القاسي يبني السلطة القاسية
الهضاب الإيرانية المرتفعة، والمناخ الجاف القاسي، لا يشكّلان مجرد بيئة طبيعية، بل كان لهما دور فعّال في تشكيل شكل الحكم داخل إيران، فالطبيعة الجغرافية تجعل من الصعب بناء شبكة مواصلات أو خدمات متكاملة في الأطراف البعيدة مثل كردستان غربا، وبلوشستان شرقا، ونشأت سلطة مركزية قوية في طهران، تُمسك بزمام الأمور وتُدير الدولة من الأعلى، دون مشاركة حقيقية من المناطق البعيدة.
هذه الظروف فرضت ما يمكن تسميته بـ”الحكم الجبري من المركز”، حيث لا خيار آخر متاح أمام الدولة سوى السيطرة المشددة لتضمن الاستقرار، لكن ما يحدث عند انهيار هذه السلطة المركزية ليس مجرد احتجاج أو ثورة تقود لتغيير سياسي، بل تتفكك البلاد إلى كيانات محلية صغيرة، غالبا عرقية أو مذهبية، لكل منها نمط حياة مستقل وشبه مكتف ذاتيا، مستفيدين من البُعد الجغرافي عن العاصمة.
الانهيار ليس مجرد سقوط لنظام حاكم، بل تحوّل لإيران إلى مجموعة من الجيوب المتفرقة التي يصعب إعادة جمعها، لا سياسيا ولا جغرافيا؛ هذه هي الكارثة الحقيقية التي يحذر منها المنظور الجغرافي: أن تنكسر الدولة إلى شظايا لا تعود كما كانت.

خطوط الأنابيب أخطر من خطوط النار
تملك إيران السيطرة على عقدة جغرافية للطاقة، فالعقوبات الغربية تحاصر الاقتصاد، لكن التدفقات الفعلية من النفط والغاز عبر الجغرافيا لا تزال قائمة.
- إيران تُطل على الخليج وتُشرف على بحر قزوين.
- هذا يجعلها عقدة إمداد وتصدير ومنافسة، لا يمكن تجاهلها حتى من قبل الخصوم.
إذا سقط النظام، فلن يكون هناك فراغ سياسي فقط، بل سباق دولي على شبكات الطاقة، فالصين وروسيا وتركيا، وربما الهند سيتنافسون على التموضع داخل الأراضي الإيرانية، ففوضى الطاقة هنا تعني انفجارا جغرافيا، وليس فقط سياسيا.
الجغرافيا الدفاعية تقاوم الانهيار
خريطة إيران العسكرية ليست مركزية فقط، بل متعددة الطبقات، فهناك الجيش النظامي (Artesh)، والحرس الثوري (IRGC)وقوات التعبئة (Basij).
- كل واحدة من هذه القوى تتغلغل في رقعة جغرافية معينة، وتُجيد الحرب الدفاعية في التضاريس القاسية ما بين الجبال والسهوب والحدود المتقلبة.
فحين يُفكك المركز السياسي، لا ينهار كل شيء دفعة واحدة، بل تتحول الأقاليم إلى مناطق مقاومة بسلطات محلية قائمة بذاتها، وأحيانا بعدائية لبعضها، وهذا ليس تفكيكا سياسيا، بل تشظيا جغرافيا مسلحا.
عمليا ربما يسقط النظام السياسي، لكن إيران لن تختفي من الخريطة، فالدول التي لها “هوية جغرافية” قوية لا تنهار بالكامل، وإيران كحضارة وجغرافيا وليست فقط كنظام ستُعاد تشكيلها بأشكال جديدة: حكومات عسكرية، فدراليات إثنية، أو حتى دويلات مناطقية.
إن رهان واشنطن أو تل أبيب على انهيار شامل وفوري، يعكس قراءة جيوسياسية ضحلة، ويخاطر بفتح أبواب فوضى يصعب تجاوزها دون تكلفة بشرية وجيوستراتيجية هائلة.

سيناريوهات ماذا بعد السقوط؟
السيناريو | التوصيف الجغرافي | النتيجة |
انقلاب داخلي بقيادة IRGC | إعادة تموضع السلطة في المركز | دولة قوية، ولكن أكثر ميلا للعسكرة والانغلاق |
تفكك انفصالي | كردستان وبلوشستان وخوزستان ككيانات مستقلة | تفتيت الموارد، وسباق قوى على خطوط الطاقة |
تحول مدني تدريجي | فدرالية تحترم التوازنات الإثنية والجغرافية | حفظ تماسك الدولة وتأجيل الانفجار الشامل |
السؤال ليس: هل يسقط النظام؟ بل كيف تعيد الجغرافيا تشكيل نفسها بعد كل زلزال سياسي؟
كيف تقرأ إسرائيل وأميركا الخريطة؟
إسرائيل والولايات المتحدة ترى في إيران عدوا سياسيا واستراتيجيا، لكن الرؤية الجغرافية مفقودة غالبا من دوائر صنع القرار الغربية، فتقويض طهران يبدو انتصارا مرحليا، لكنه يُطلق صراعات حدودية وإثنية تمتد لعقود، وفي ظل الانهيار ستكون أطراف مثل الصين وروسيا أسرع إلى ملء الفراغ، خصوصا في مناطق الطاقة والبنى التحتية العابرة للقارات، فالخطأ ليس فقط في إسقاط النظام، بل في عدم تحضير خريطة ما بعد السقوط.
الجغرافيا تُمهل ولكن لا تهمل، الدول التي تملك موقعا إستراتيجيا ومجالا طبوغرافيا معقدا لا يمكن هزيمتها بسهولة، وإيران اليوم خاضعة لعقوبات خانقة وضغوط سياسية هائلة، لكن جغرافيتها تمنحها مقاومة متجددة، والرهان على انهيارها هو رهان على زلزال بلا خريطة، فوحده من يقرأ الطبوغرافيا، ويتابع التغيرات الإثنية، ويقيس خطوط الأنابيب لا الحدود الدبلوماسية، يمكنه فهم مستقبل هذه الدولة، فالنظام الإيراني ربما يسقط لكنإيران بل تعيد إنتاج نفسها عبر تضاريسها.
تفكيك ايران فيه خير كبير للدول العربية