إيران وإسرائيل: من الحرب الرمادية إلى إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي

لا تعني الضربة الجوية في الشرق الأوسط مجرد انفجار في السماء، بل هي ارتجاج في الأرض الجيوسياسية، والهجوم الإسرائيلي الأخير على العمق الإيراني، تحت عنوان “عملية الأسد الصاعد”، ليس سوى مظهر من مظاهر حرب كبرى تجري على أطراف النظام الدولي.

لا يتعلق الأمر بصراع نووي أو حتى بمواجهة تقليدية، بل بإعادة تعريف لقواعد الاشتباك بين قوة بحرية تمثلها إسرائيل وحلفاؤها، وقوة برية تقودها إيران وتتمدد عبر الجغرافيا، هذا الحدث لا يمكن عزله عن صراع أوسع بين الإمبراطورية الأطلسية – بأدواتها الجوية والبحرية والسيبرانية – وبين أوراسيا الناهضة، التي تتجسد في طهران ومنظومتها العابرة للحدود.

الضربة الإسرائيلية: رسالة بطابع تكتيكي واستراتيجي مزدوج

عملية “الأسد الصاعد” لم تكن فقط ضربة عسكرية، بل بيانا استراتيجيا، فالطائرات التي عبرت المجال الجوي واستهدفت منشآت نووية في نطنز ومقار عسكرية في العمق الإيراني، والمهام الاستخباراتية من داخل إيران؛ لم تكن مهمة منعزلة، فالضربة جاءت ضمن ما يعرف بـ”الحملة بين الحروب” وهو نهج إسرائيلي كلاسيكي للحد من تنامي التهديد الإيراني دون الذهاب إلى حرب شاملة.

إسرائيل أرادت أن تقول: “نستطيع أن نصل، وأن نضرب، وأن نُربك”، ونجحت مؤقتا في ذلك، لكن السؤال ليس فيما إذا كانت الضربة فعّالة تكتيكيا، بل هل يمكن لها أن تُغيّر الحسابات الاستراتيجية؟

دور الاستخبارات والدعم غير المعلن

كشفت العملية عمق التكامل الاستخباراتي، فالنجاح في ضرب أهداف محصنة بهذا المستوى يتطلب اختراقا غير عادي للمنظومات الدفاعية، وما هو مرجح – وإن لم يُعلن – أن الدعم الأمريكي، الاستخباراتي واللوجستي، كان حاسما، وهذا الدعم غير المعلن يعبّر عن استراتيجية أمريكية مزدوجة: تركيز الضغط على إيران دون التورط المباشر، ودعم إسرائيل ضمن حدود الحرب الرمادية.

لكن هذا التكتيك محفوف بالمخاطر، حيث يُبقي الأبواب مفتوحة أمام التصعيد دون وجود استراتيجية خروج واضحة، وإيران لا تملك مجالا للتردد وردها وفق المؤشرات سيكون “انتقاء بين الخيارات الصعبة”، والشكل الكلاسيكي للرد الإيراني وفق الظرف الحالي وبعد تفكك “وحدة الجبهات” فإن سيناريو “استراتيجية التدرّج” سيكون هو الأكثر واقعية ويشمل:

  1. فتح ممرات الهجوم الجوي باستهداف بطاريات الدفاع الجوي الإسرائيلية.
  2. استخدام الوكلاء الإقليميين مثل الحوثيين وقوى عراقية لضرب المصالح الأمريكية.
  3. إغلاق المضائق عبر استهداف الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر.
  4. الهجمات السيبرانية: التي اخترقت الدفاعات الإسرائيلية بلا صوت، لكن بأثر بالغ.

هذه الأداة المتعددة الأبعاد هي إعلان واضح: طهران لا ترد فقط على هجوم، بل تُعيد بناء معادلة الردع.

البحر مقابل البر: جغرافيا الصراع

الجغرافيا هي المُحرّك الأعمق للصراعات، و”إسرائيل” قوة بحرية، تعتمد في أمنها على التفوق الجوي والدعم الأمريكي والتفوق السيبراني، في المقابل، إيران قوة برية ممتدة والصراع بين الطرفين هو امتداد للصراع التاريخي بين “أطلسية” غربية تعتبر القوة في الأساطيل والأقمار الصناعية، و”أوراسية” تعتمد على التضاريس، السكان، والحدود الجغرافية المفتوحة.

الضربة الإسرائيلية كانت لحظة تذكير، تقول فيها الأطلسية: “نحن نُحدد حدود الردع.” لكن الرد الإيراني أظهر سابقا أن البرّ لم يعد ساكنا، فهو لن يكون فقط عبر الصواريخ بل عبر بناء رواية سياسية جديدة، فكل تحرّك عسكري إيراني ترافق مع انفتاح على موسكو وبكين، ورسائل ضمنية حول إعادة التفاوض النووي من موقع قوة، فإيران لا تريد حربا شاملة، لكنها تريد أن يُعترف بها كقوة إقليمية كبرى، لا كخطر نووي يجب احتواؤه، ففي منطق طهران، لا يُقاس النجاح بالضربة، بل بالتحكم في وتيرة التصعيد، وبالقدرة على فرض شروط اللعبة.

المنطقة على حافة الانفجار: مسرح بلا يقين

السؤال الحقيقي الآن: إلى أين يتجه هذا الاشتباك؟

التقييمات تشير إلى أن الضربة الإسرائيلية كانت ناجحة تكتيكيا، لكنها لم تدمر البنية النووية الإيرانية، في المقابل، فإن الرد الإيراني سيدفع إسرائيل إلى التصعيد الشامل، لكنه كافٍ لفرض واقع عسكري جديد على الأرض وفي البحر.

النتيجة؟ الشرق الأوسط يعود إلى معادلة “التصعيد دون الانفجار”، حيث كل طرف يردّ بما يكفي للردع، لا للحرب.

لكن هذا التوازن هشّ، فأي خطأ في الحسابات؛ صاروخ يقتل أكثر مما يجب، أو طائرة تُسقط فوق هدف حساس سيُفجّر الوضع.

صراع الرموز لا الصواريخ

ما نراه ليس مجرد تبادل نيران، بل صراع رمزي، فـ”إسرائيل” تضرب لتُبقي على صورتها كقوة مهيمنة، وإيران ترد لتعلن أنها أصبحت ندا لا تابعا، وكل ضربة تحمل وراءها رموز السيادة والردع وإعادة ترتيب النظام الإقليمي.

إنه اشتباك بين عالمين:

  • عالم تقوده حاملات الطائرات والأقمار الاصطناعية، يرى في التفوق الجوي مفتاح السيطرة.
  • وعالم آخر ينبت من الأرض، يراكم الردع بالصواريخ والوكلاء، ويستثمر في الزمن لا في الفعل الخاطف.

ووسط كل هذا، تقف المنطقة أمام منعطف خطير: إما تصعيد متدرج نحو حرب مفتوحة، أو تثبيت قواعد اشتباك جديدة تعترف بأوزان القوى الواقعية.

الشرق الأوسط في 2025 لا يعيد إنتاج صراع قديم، بل يكتب مشهدا جديدا، حيث تتحول الهجمات من رسائل إلى خرائط، ومن بيانات إلى حدود نفوذ.

وما بعد الضربة؟ هو تاريخ يُكتب الآن، بالدم والرموز والخرائط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *