“الأخوات” في زمن سوريا الجديد.. تحول النقاب إلى مرسوم سيادي

في قلب دمشق، عند حديقة السبكي، ظهر موكب صغير من الجامعيات المنقبات يتقدمن بخطى واثقة، وهن محاطات بنظرات إعجاب، وبجو احتفالي يشي بحدث جلل، لا شيء هنا يُترك للصدفة: الكاميرا مضبوطة، الزاوية محسوبة، والموسيقى الأخلاقية تملأ الخلفية، فهناك طقس ديني جديد يُحتفل فيه بالنقاب كرمز للتحول، فهو “عمادة إسلامية” في النسخة السورية الجديدة.

يتحول النقاب من خيار فردي إلى مشهد احتفالي، ويحمل معه موجة تدين وتؤشر على حالة أمنية للحياء، فمع الدعاية السياسية حول الحرية تظهر ملامح “فرض” ناعم ومتقن الإخراج؛ يجمع بين الأدلجة الدينية والسلطة الرمزية حيث تصبح الأخلاق مسرحاً للسلطة، لا ميداناً للاجتهاد.

الحدث الدمشقي ليس معزولاً، بل متصل بخيوط متينة تمتد إلى حمص، حيث وقعت حادثة على درجة عالية من الدلالة: في مبنى القصر العدلي بمنطقة الوعر، مُنعت فتاة محجبة من دخول المبنى لأنها ترتدي “لباساً غير شرعي”، بنطال واسع لا أكثر مع حجاب، والقرار لم يصدر عن قاض أو مسؤول رسمي، بل عن “الأخت”، وهي كائن وظيفي جديد، ومنقبة تحمل صلاحية التفتيش الأخلاقي، وتملك حق مصادرة حرية الجسد تحت غطاء الحشمة.

في لحظة عبثية بامتياز، يتدخل “الشيخ”، الموظف غير الرسمي الذي تربطه صلات غير واضحة بفصائل مسلحة، ليطرح “الحل”: إما النقاب، أو الاحتجاز لحين “الاقتناع”، وينقلب مفهوم الأمن من حماية المواطنات إلى ضبط أجسادهن وأمزجتهن وسلوكهن تحت شعارات “الستر” و”الفضيلة”.

ما يحصل اليوم في سوريا هو عملية إعادة هندسة أخلاقية، تتخذ من الدين غطاءً ومن النساء ساحة اختبار، فاستخدام الدين في إطار أمني لا يُفضي إلى تقوى، بل إلى خنوع، ويتم اختصار المواطنة في الامتثال، وتُعاد صياغة الحياة اليومية لتدور في فلك “الأخلاقي المقبول” وفق معايير سلطة لا تُعرّف نفسها، بل تعمل من خلف ستار.

المجتمع السوري لم يُمنح حق إعادة بناء نفسه بعد الكارثة، بل يُقذف من مأساة إلى أخرى، وهذه المرة مأساة ناعمة، مغلفة بالدين، فبدلاً من فتح المجال العام للمساءلة والتعدد، يُعاد تطهيره من “المنحرفين”، أي أولئك الذين يملكون شجاعة أن يكونوا مختلفين، ويظهر النقاب هنا لا كخيار تعبّدي، بل كشرط للقبول الاجتماعي والسياسي، وربما كمعبر وحيد للمرور في مؤسسات الدولة.

السلطة السورية تستخدم أدوات جديدة من خلال العباءة الأخلاقية، وتستبدل الفروع الأمنية بـ”الأخوات” في السرايا، والذكورية القديمة أفسحت المجال لأبوية متدينة، لا تقل تسلطاً ولا عنفاً، فالفكرة هنا ليست الدفاع عن نقاب أو كشف، بل عن الحق في أن يُترك الجسد لخيار صاحبه، لا لسلطة موظف ظلّ أو هيئة شرعية مشبوهة.

أخطر ما في هذه الآلية أنها لا تُطرح كفرض أمني بل كخيار مجتمعي، فالمواطن “يُقنع” بأن هذا هو “الطريق القويم”، وأن من يعارضه إنما يعارض القيم والدين، وحتى الأمة، فلا يتم إعادة إنتاج الطاعة اليومية من الداخل، بل بالخوف من “العيب”، و”الانحراف” والتهميش.

ما نشهده هو نسخة سورية من جعل الحياء حالة أمنية، حيث لا تُستخدم الأخلاق كمنظومة قيمية تتيح التنوع، بل كقيد موحّد يضمن خضوع الجميع لمنظومة لا تعرف الشفافية ولا تحتمل النقد، ويُصنع “العيب” ويُروّج له على أنه الضمير الجمعي، أما المختلف، فيُقصى لا لأنه خطر، بل لأنه يحرج الرواية الرسمية.

باسم الفضيلة، يتم الآن بناء جدار جديد من الخوف، لكنه هذه المرة لا يُشاهد، بل يُحسّ، فالمرأة تُسائل عند أبواب المحاكم، والرجل يُخضع في بيته، والشاب يُستجوب في جامعته، ولا أحد خارج دائرة الشبهة الأخلاقية، فالجميع في اختبار مستمر أمام السلطة التي تختبئ خلف عباءة الدين.

إنه نظام جديد في إدارة الطاعة، أكثر فاعلية من القمع المباشر، لأنه يخلق رقابة ذاتية شاملة، وكل فرد يصبح شرطياً على نفسه وعلى غيره، وأي اختلاف يتحول إلى تهديد أمني، فسوريا تعيش مرحلة إعادة هندسة الطاعة على أسس جديدة، فهو ليس إحياءً للقيم، بل دفنٌ للحرية، وليس تجديداً للدين، بل استثماره في خدمة سلطة مرتجفة.

وفي سوريا الجديدة، يبدو أن النقاب ليس مجرد قماش، بل سياسة. والحياء، كما تُريده السلطة، ليس فضيلة، بل طاعة ملفوفة بورق القداسة.

فكرتين عن““الأخوات” في زمن سوريا الجديد.. تحول النقاب إلى مرسوم سيادي”

  1. هذا اللباس يهودي وسعودي و عثماني لايمت لمجتمعنا بصلة يكفوا عن النفاق السعودية تخلت عنه وبقيت إيران وقريبا ستخلعه ونحن نلبسه لذلك سنحارب هذه البدع بكامل قوتنا حتى الموت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *