التحول الجيوسياسي الكبير: واشنطن ودمشق تفتتحان عصرا جديدا في التنف

في خبر يبدو كأنه مأخوذ من رواية سياسية أكثر منه من واقع الشرق الأوسط، أفاد موقع i24NEWS الإسرائيلي بأن وفدا أمريكيا رفيع المستوى سيزور دمشق قريبا للتوقيع على اتفاق رسمي مع الحكومة السورية الجديدة، يقضي بإقامة قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في منطقة التنف جنوب شرق البلاد.

وبغض النظر عن صحة هذا الخبر من عدمه، لكن قراءة احتمال إنشاء قاعدة في التنف يبقى أمرا واردا في ظل الصراع الإقليمي على سوريا، وللمرة الأولى في تاريخ سوريا، توافق حكومة دمشق برئاسة أحمد الشرع على حضور أمريكي معلن ومُقنن على أراضيها.

لكن هذا الاتفاق ليس مجرد صفقة عسكرية، فهو زلزال جيوسياسي ومفصل تاريخي، لأنه يعني فيما لو حصل دخول سوريا، بعد أكثر من عقد من الحرب والفوضى، إلى مرحلة ما بعد الدولة القومية التقليدية، وتحولها إلى نقطة ارتكاز في لعبة الأمم الجديدة، حيث تُرسم الخرائط لا بالحبر، بل بالتوازنات الدقيقة بين الإمبراطوريات المتنافسة.

الواقعية الأمريكية الجديدة: من التواجد غير الشرعي إلى الحضور الشرعي

واشنطن، إذا وقعت هذا الاتفاق، لا تغير فقط موقعها العسكري، بل تُعيد تعريف وجودها نفسه، فطيلة السنوات السابقة، اعتمدت على انتشار عسكري غير مصرح به، مستندة على ذرائع مكافحة الإرهاب ودعم حلفاء محليين مثل “قسد”، بينما يتيح الاتفاق التدخل من الباب الأمامي وبموافقة الدولة السورية نفسها.

هذا هو جوهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط؛ الانتقال من الفوضى الخلاقة إلى النظام الوظيفي، ومن الهيمنة بالقوة إلى الشراكة المحدودة، ومن الاحتلال غير الرسمي إلى التقنين القانوني؛ إنها واقعية براغماتية بلا أوهام وبلا شعارات.

ومع تقليص عدد قواعدها من ثماني قواعد إلى قاعدة واحدة في التنف، تخفض واشنطن قواتها إلى 500 جندي فقط، لكنها تُحصّن وجودها السياسي والعسكري، وتُطبع علاقتها مع دمشق الجديدة، تماما كما فعلت مع بغداد بعد 2003 أو كابل قبل الانسحاب.

أحمد الشرع: الورقة الجديدة في دمشق

تولي أحمد الشرع رئاسة سوريا بعد سقوط بشار الأسد لم يكن نتيجة انتخابات حرة، ولا ثورة شعبية، بل هو  نتاج توافق دولي ضمني، أعاد ترتيب الأوراق في المنطقة، فالشرع يمثل لحظة وسطى بين بقايا الدولة العميقة وضرورات النظام العالمي الجديد، هو شخصية انتقالية، جهادية بواجهة تكنوقراطية، لكنه براغماتي إلى حد غير مسبوق.

عمليا فإن الشرع قدم خطابا سياسيا يؤشر لقبوله باتفاق رسمي مع واشنطن، فهو يسعى لانقلاب كامل على عقيدة البعث التي كانت ترفض أي وجود غربي، أما في خطاب الشرع الجديد فلا يوجد مكان لـ”الإمبريالية الأمريكية”، بل حديث عن “مصلحة الدولة السورية” و”حماية السيادة عبر الشراكات”، وهي لغة ما بعد الإيديولوجيا، إنها لغة بقاء السلطة.

التنف: النقطة التي تكشف كل شيء

قاعدة التنف ليست مجرد موقع جغرافي بل رمز جغرافي، لأنها المفصل الذي تقاطع فيه المشروع الإيراني، والطموح الروسي، والقلق الإسرائيلي، والرهان الأمريكي، موقعها عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن يمنحها أهمية استراتيجية لا تُضاهى.

من يسيطر على التنف يراقب خطوط الإمداد الإيرانية، ويؤمن العمق الإسرائيلي، ويمنع التواصل البري بين طهران وبيروت، وإضفاء طابع رسمي على الوجود الأمريكي في التنف ليس فقط لحماية الـ500 جندي المتبقين، بل لإعلان أن واشنطن لن تنسحب من هذه الرقعة من الشطرنج الإقليمي.

المثير في كل هذا هو الصمت الروسي، والتراجع الإيراني، فموسكو، التي كانت حتى الأمس الراعي الرسمي للنظام السوري، تراقب من بعيد هذا التفاهم الجديد بين دمشق وواشنطن، وربما تستشعر خسارة تدريجية لنفوذها في قلب المشرق، أما طهران، فربما تتلقى هذه الخطوة كإشارة على نهاية مشروعها الإقليمي، إذ أن التنف كانت دوما عائقا أمام وصولها لشواطئ المتوسط.

لكن هذا لا يعني أن روسيا وإيران خرجتا من اللعبة، بل هما الآن مضطرتان لإعادة حساباتهما، وربما التحرك ضمن أساليب أكثر مرونة، وأكثر سرية.

هل نحن أمام سايكس-بيكو جديدة؟

ما يجري اليوم في سوريا يشبه إلى حد بعيد ما جرى قبل قرن، خريطة تعاد رسمها، لكن هذه المرة بلا توقيعات معلنة، وبدلا من وزراء خارجية الإمبراطوريات، لدينا الآن دبلوماسيون ورجال استخبارات يجلسون بهدوء ويقسمون النفوذ وفق منطق “ما هو ممكن”، لا “ما هو عادل”.

لكن الفارق الأساسي أن هذه الـ”سايكس-بيكو” الجديدة لا تقوم على تقسيم الأرض، بل على تقاسم الوظائف، فأمريكا تبقى في التنف. روسيا تُمسك بقاعدة حميميم، أما الشرع، فهو المدير التنفيذي لهذه التوازنات — لا أكثر ولا أقل.

وسط كل هذه التحولات، يظل السؤال الجوهري: أين الشعب السوري من هذا كله؟ هل تمت استشارته؟ هل هو شريك في هذه الصفقات الكبرى؟ الجواب واضح، فالشعب هو الغائب الأكبر عن طاولة الكبار، فما يُرسم اليوم هو من أجل “الاستقرار”، لا من أجل “العدالة”، ومن أجل “السيادة الشكلية”، لا من أجل “الكرامة الشعبية”.

ما يمكن أن يحدث في التنف اليوم ليس نهاية، بل بداية فصل جديد في الصراع على سوريا؛ يحكمه منطق الواقعية القاسية، لا الأوهام القومية أو الثورية، وأميركا لم تنتصر، لكنها ربحت وقتا، ودمشق لم تُهزم، لكنها باعت جزءا من السيادة بثمن البقاء.

أما اللاعبون الآخرون من موسكو إلى طهران، ومن “تل أبيب” إلى أنقرة فسيعيدون ترتيب أوراقهم، في انتظار الجولة القادمة.

سوريا، كما كانت دائمًا، ليست دولة فقط. إنها مرآة العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *