أعادت الحرب تشكيل مساحة سوريا، وبشكل متعمد، إلى حلبة تتصارع فيها مشاريع أيديولوجية متناقضة، وظهرت التشكيلات الأجنبية التي دخلت مبكرا في المعارك الدائرة، ويقدم الحزب الإسلامي التركستاني (TIP) نموذجا للاعبين الجهاديين الأكثر إثارة للجدل.
ورغم أن الحزب تأسس لأهداف انفصالية تتعلق بإقليم شينجيانغ الصيني، إلا أن دخوله إلى سوريا منذ عام 2011 أعاد تشكيل ملامحه، ووضعه في قلب المشهد الجهادي العالمي، وما حدث بعد 8 كانون الأول 2024، أي بعد سقوط نظام بشار الأسد، قلب قواعد اللعبة، فالحزب الذي كان في طليعة التنظيمات السلفية الجهادية، أعلن حل نفسه، واندماجه في وزارة الدفاع السورية الجديدة.
بدت الخطوة للكثيرين أشبه بـ”إعادة تدوير” للجهاد تحت عباءة الدولة، ما يثير تساؤلات حادة حول مستقبل السلم الأهلي في سوريا، خصوصا أنه أعاد حل نفسه مرة أخرى في 18 أيار 2025، وأصبح الفرقة 88 من الجيش.
من أفغانستان إلى إدلب: تصدير الجهاد العابر للقارات
منذ نشأته في تسعينيات القرن الماضي، تبنّى الحزب الإسلامي التركستاني سردية مضادة للدولة الصينية، ساعيا لإقامة “إمارة إسلامية” في تركستان الشرقية، وبنى تحالفاته الأولى مع تنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان، لكن الحرب السورية مثّلت فرصة فريدة لإعادة تموضعه.
عمليا فإن انتقال التنظيمات الجهادية من الهامش إلى المركز يتم غالبا في لحظات فراغ سياسي، وهذا ما حدث في سوريا بعد عام 2011، فلم يكن التحاق الحزب الإسلامي التركستاني بساحة القتال مجرد دعم لأطراف الثورة، بل ترجمة لإستراتيجية “الجهاد العالمي” بصيغته العنيفة، القائمة على استثمار الصراعات المحلية لإعادة تدوير المشاريع العابرة للحدود.
تحت لواء “جيش الفتح” وبالتحالف مع جبهة النصرة، شارك “لواء تركستان” التابع للحزب في معارك بارزة مثل جسر الشغور (2015)، ووجوده لم يقتصر على الجبهات، بل تجاوزها إلى إعادة تشكيل البنية السكانية والثقافية في مناطق مثل إدلب وسهل الغاب، عبر مشاريع تهجير واستيطان طائفي موثقة.
بنية أيديولوجية مغلقة ومشروع توسعي
يتبنى الحزب الإسلامي التركستاني أيديولوجيا سلفية جهادية لا تختلف كثيرا عن تنظيم القاعدة، إلا في بعدها العرقي الأويغوري الواضح، فالحزب يرى نفسه وريثًا تاريخيًا لإمارات إسلامية أويغورية زالت قبل قرن، ويُسقط هذا الإرث على واقعه السوري، بشكل لا يتسق مع السياق المحلي.
إن أحد ملامح السلفية الجهادية المعاصرة هو انعدام الحس الجغرافي والسياسي المحلي، واستبداله بـ”خريطة ذهنية أممية”، وهو ما نراه في حالة الحزب الذي حوّل أرياف إدلب إلى بيئة بديلة عن شينجيانغ، وغذّى النزاع الطائفي بأدوات عقائدية وميدانية، من تدمير الكنائس إلى تجنيد الأطفال.
لكن التحدي الأكبر تمثّل في تفاعله مع المجتمعات المحلية، فلم يكن مجرد دعم عسكري، بل فرض نظاما ثقافيا وعقائديا على الأرض، وأنتج توازنات مسلحة جديدة، نقلت الحسم العسكري إلى ما يشبه “احتلالا أيديولوجيا”، وهو ما ضرب السلم الأهلي خاصة في المناطق التي كانت تعيش حالة طبيعية قبل دخول هذا الفاعل الخارجي.
من حل الحزب إلى إعادة إنتاجه في مؤسسات الدولة
في 8 كانون الأول 2024، وبعد سقوط سلطة البعث، جاء الإعلان المفاجئ من الحزب الإسلامي التركستاني بحلّ نفسه، وانضمامه إلى وزارة الدفاع الجديدة بقيادة المعارضة، ولأول مرة، يتم تعيين قيادي جهادي مثل عبد العزيز داوود خدابردي (“زاهد”) كعميد في الجيش السوري وقائدا للفرقة 133.
هذه الخطوة تحمل مفارقة لافتة على طريقة: من الجهاد إلى البيروقراطية، من تنظيم سري إلى جهاز رسمي، لكنها ليست تحولا شكليا، بل مناورة للحفاظ على البنية الصلبة للتنظيم، داخل جهاز الدولة هذه المرة، والقلق الدولي من هذه الخطوة لم يكن عبثيًا، فالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا حذّرت من أن إدماج جهاديين أجانب في المؤسسة العسكرية يقوّض الأمن الإقليمي، خصوصا مع سجل الحزب في انتهاك حقوق الإنسان، وما يعزز هذه المخاوف، أن كثيرا من مقاتليه ما زالوا يحتفظون بخطابهم الأيديولوجي دون تغيير، ويُظهرون نوايا لمواصلة “الجهاد” ضد الصين من الأراضي السورية.
السلم الأهلي على المحك
بعد 2024، تُطرح مسألة السلم الأهلي السوري كمعضلة شائكة، فإذا كان غياب الدولة المركزية خلق أمالا لدى البعض لحقبة جديدة من التعددية السياسية، فإن وجود فاعلين مثل الحزب الإسلامي التركستاني – حتى بصيغته “المنحلة” – يهدد بإعادة إنتاج العنف من داخل أجهزة الدولة.
إن خطر الجماعات الجهادية لا يقتصر على العنف المباشر، بل في قدرتها على خلق ثقافة مضادة للدولة، تعيش داخلها وتعيد تعريفها من الداخل، وهذا ما يفعله الحزب اليوم، من خلال محاولة “أسلمة” الجيش السوري الجديد أو على الأقل تطويعه لمشروعه العقائدي.
بين النفي والاندماج
الحزب الإسلامي التركستاني لم يُهزم عسكريا، بل أعاد إنتاج نفسه في مشهد سياسي جديد، وهو ما يجعل من نهايته المعلنة بداية لمرحلة أكثر غموضا، وبين سردية “الحل الطوعي” والانخراط في الجيش، وبين تاريخه الحافل بالتحالفات الجهادية، يبرز سؤال حاسم: هل يمكن بالفعل أن يتحول تنظيم عابر للحدود، استثمر الحرب لتأسيس مشروع أممي، إلى مكون في جيش وطني؟
الجواب لا يزال معلقا، لكن تجربة سوريا ما 8 كانون الأول 2024 ستكون مختبرا قاسيا لهذا النوع من التحولات، لأن ما يبدو إعادة تأهيل حسب التصريحات الرسمية السورية هو فقط استراحة المحارب.
يعني هذا الحزب كارثة على سورية يرجع للصين ويحل عن سماءنا ناقصنا معتوهين