في العالم كما تراه واشنطن، لا تُخلق الدول لتكون كينونات سيادية، بل تُصاغ كوظائف في بنية إمبراطورية معولمة، ولا يُصنع الرؤساء لتمثيل شعوبهم، بل لملء فراغات في خرائط التوازنات، وفق معادلة تقول: لا نحتاج إلى دولة بل إلى رأس قابل للإلغاء.
هكذا يظهر الرئيس الانتقالي “أحمد الشرع” في التصور الأمريكي لا كرئيس لدولة، بل كحلقة في مشروع هندسي – سياسي تتعامل فيه الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط كمصفوفة وظيفية، كل رأس فيها مشروع اغتيال مؤجل، لا بسبب الخصومة مع “الإرهاب”، بل بسبب قابلية القطع والاستبدال إذا خرج الرأس عن الإيقاع.
الدولة كمنصة تنفيذ، لا كيان سيادي
العقيدة الأمريكية لا تؤمن بالدول، بل بالمناطق ذات الصلاحية المحدودة، وما تسميه واشنطن بـ”الحل السوري” هو في الحقيقة تفكيك حاد للسيادة وتحويل الكيان السياسي إلى “بنية تشغيل” لدولة دون شعب موحد، دون جيش بعقيدة وطنية، ودون سلطة تتجاوز السقف المرسوم خارجيا.
الرئيس هنا بالنسبة للإدارة الأمريكية ليس أكثر من واجهة لمجموعة شبكات دولية، أمنية واستخباراتية ومالية، تدير الدولة كما تُدار شركة أمنية خاصة، وعندما تحذر واشنطن من “اغتيال محتمل” فإنها لا تحمي حياة شخص بل تستعرض حدود الوظيفة: أنت مفيد طالما أنت ضمن المشروع.
المأساة ليست في أن الشرع قد يُغتال جسديا، بل في أن كيانه السياسي مهدد من اللحظة الأولى، لأنه غير مؤسس على شرعية شعبية أو مؤسساتية، بل على مشيئة أميركية تحدد من هو “المعتدل” ومن هو “المتطرف” وفق المصالح اللحظية.
“المعتدل” هو الذي ينسجم مع الرسم الهندسي، لا من تاريخه نظيف، و”المتطرف” هو الخارج عن السياق الذي ترسمه واشنطن وليس من يملك عقيدة راديكالية، وهذه اللغة الأخلاقية الزائفة هي إحدى أدوات السيطرة، حيث تُستخدم الأخلاق كغطاء للوظائف، وليس لترسيخ المبادئ.

من الجهادية إلى الإدارة: التدوير بدل الإصلاح
تحوّل الرئيس الانتقالي في التصور الأمريكي من شخصية جهادية إلى رئيس انتقالي ليس معجزة سياسية، بل نتيجة طبيعية لنموذج التدوير الأمريكي، فلا توجد قطيعة مع الماضي، بل إعادة تشغيل للعناصر ذاتها، لكن بمواقع مختلفة، فمقاتلو الأمس أصبحوا “جنود الوحدة الوطنية”، والخطاب الراديكالي أعيدت صياغته ليخدم سردية “الاستقرار المؤقت”.
هذا ما يجعل من “الجيش السوري الجديد” كيانا بلا عقيدة وطنية، بل جيشا فوق الدولة، مرتبطا بولاء خارجي، ينفذ مهاما لا تصوغها دمشق بل غرف القرار في عواصم أخرى، بذلك تتحول الدولة إلى واجهة والجيش إلى ذراع مستأجرة.
واحدة من أكثر المؤشرات دلالة على تفريغ السيادة السورية من مضمونها هي ما تسميه واشنطن بـ”الهدوء البناء” مع إسرائيل، فلا حديث عن حقوق أو جغرافيا أو ردع، بل عن صيغة تضمن عدم الاشتباك مقابل الهدوء والاستقرار “الافتراضي”.
والتطبيع هنا ليس خيارا سياسيا بل أحد بنود البقاء، ويتم إحاطة سياسة الدولة بجدران وظيفية؛ فصمتها في ملف إسرائيل، هو ثمن “الفسحة” في ملف الداخل، وبهذا تُصاغ سوريا كدولة “حيادية مجبرة”، لا فاعلة ولا ممانعة، بل صامتة، ومجالها الحيوي محدد سلفا.
السوق بدل السيادة
عندما تتحدث الإدارة الأميركية عن رفع العقوبات، فإنها لا تمهد لعودة الدولة، بل تفتح الطريق أمام السوق حيث تعود الشركات لا لتبني بل لتربح، وهذا ليس تحريرا اقتصاديا، بل خصخصة لما تبقى من مؤسسات سوريا، وفق معادلة “أنتَ مفيد طالما كنت بوابة للمال، لا حاملاً لمشروع سياسي”.
الرئيس كما تتصوره الولايات لا يقود، بل يضمن، وهو نقطة اتصال بين الداخل المفكك والخارج المهيمن، وكلما زادت الفوائد، زادت الحماية، وما إن يطلب ما لا يجب طلبه – السيادة مثلًا – تُسحب منه أوراق الضمان، ويعود إلى طابور “القابلين للإلغاء”.
سوريا كفسيفساء وظيفية
الخطاب الأميركي يشير إلى “التقدم”، لكن التقدم هنا ليس نحو دولة موحدة بل نحو تفكيك منظم؛ شمال كردي بواجهة شبه استقلالية، غرب بإدارة جهادية ناعمة، جنوب رمادي، وشرق يخضع لقواعد نفطية وأمنية، ولا أحد يحكم سوريا كلها، والرئيس يمثل قطاعا، لا وطنا، وهو يعرف حدوده كما يعرف أنها قابلة للنسخ.
كل منطقة لها وكيل، وكل وكيل له رأس، وكل رأس قابل للإلغاء. هذه ليست دولة بل مشروع إدارة متعددة الرؤوس، كل منها يعمل في حقل وظيفي منفصل، وكلها تستمد شرعيتها من خارج الجغرافيا.

النهاية ليست اغتيالا… بل استهلاكا
الاغتيال الجسدي هو عنوان، أما الاغتيال الحقيقي فهو حين تتحول الرئاسة وفق ما تريده واشنطن إلى وظيفة تم امتصاص فائدتها، ففي الاستراتيجية الأميركية، لا أحد مقدس، لا دولة، لا رمز، لا تحالف، فكل شيء قابل لإعادة الهيكلة إذا فشل في توليد “النتائج”.
بهذا المنطق، فإن سوريا لم تعد كيانا بل ملفا قيد التشغيل، والرئيس الانتقالي بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية هو مؤقت فعلا، لأن مهمته ليست بناء الدولة، بل إدارة مرحلة ما بعد الدولة.
إن سياسة واشنطن لا تؤسس أنظمة بل تصمم وظائف، ولا تبني دولا بل توزع الأدوار، وفي هذا العالم الذي تحكمه المصالح الموقّتة والشبكات العابرة، تصبح السيادة خطرا، والمطالبة بها انتحارا، والرؤساء ليسوا رؤوسا لدول بل بطاقات تشغيل… تُستخدم ما دامت تؤدي المهمة، ثم تُلغى.