الطموح التركي في سورية بين جغرافيا البر وجاذبية البحر قراءة نقدية لمخاطر مشروع أردوغان

وضع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على امتداد ستة أشهر بعد سقوط النظام السياسي في سوريا مشهدا جيبولوتيكيا جديدا، لا يتعلق فقط بمن يحكم دمشق بل يلامس خطوط المواجهة الجديدة التي انتقلت من خط فصل القوات بين سوريا و “إسرائيل” باتجاه البادية السورية، وأصبحت تدمر نقطة التماس المباشرة مع رغبة أنقرة في بناء قواعد عسكرية فيها.

الفراغ الذي تركه انتهاء منظومة الشرق الأوسط بانسحاب إيران وانكفاء روسيا لم يدم طويلا، حيث تقدم أردوغان رافعا راية مشروع يدمج الرغبة العثمانية الجديدة مع عمق أطلسي جديد، فهذا الصعود التركي لا يمكن قراءته بوصفه حركة عفوية بل كإشارة خطيرة الى أن لاعبا إقليميا يحاول استكمال تحوله الى قوة برية توسعية تستثمر الانهيار السوري لتحويل جنوب الأناضول الى مرآة طموحه ما بعد الجمهوري.

الهوية الاحادية وصياغة الجيش السوري الجديد

تؤكد نظرية القوتين البحرية والبرية أن صدام بينهما يحسم مصائر الأمم، وتركيا بنَت تاريخها على لعبة موازنة بين البحر الأبيض والهضبة الأناضولية، وتتجه اليوم إلى توظيف الكارثة السورية لتوسيع ظلالها باتجاه البادية والشاطئ معا، فأردوغان أعلن في خطابه الذي سبق سقوط دمشق بيوم واحد أن واقعا جديدا يتشكل وأنقرة مستعدة لقيادته؛ لكنه تجاهل أن ذلك الواقع يعني في جوهره إلغاء استقلال مركز سوري كان عبر قرن جدار صد أمام تيارات ضغط متعددة من الشمال.

الخطر الاول في الاستراتيجية التركية يكمن في محاولة فرض نموذج هوية أحادية على فسيفساء سورية، فخطاب أنقرة عن الإدارة الشاملة يبدو تصالحيا لكنه يخفي شرطا مسبقا هو تفكيك أي بنية كردية مستقلة، ثم إعادة تركيبها داخل مؤسسة عسكرية تابعة لدمشق لكنها ممسوكة بمفتاح تركي.

هنا تتحول القضية الكردية من مسألة حقوق الى ورقة ضغط مركبة، أنقرة تسعى الى خلق جيش سوري جديد لكن بعقيدة أمن قومي تتماهى مع خطوطها الحمراء، وبهذا يتم تحويل القوات الكردية السابقة الى أدوات داخلية لفرض منظومة أمن حدودي تقي تركيا من الصعود الكردي وتمنحها في الوقت نفسه عمقا بشريا مواليا.

لجنة معتقلي داعش وصاية رباعية على شرق الفرات

الخطر الثاني يبزغ في قناة الاتصال العسكري التي دشنتها أنقرة مع تل أبيب داخل سورية، حيث يروج البعض لهذه الآلية بوصفها صماما لخفض التصعيد، بينما هي في الحقيقة أنبوب اختراق بحري يشد الجغرافيا السورية الى أجندة شرق متوسط، يرتبها “الاسطول الاسرائيلي” وشركات الغاز العابرة، والهاتف الساخن يمنح “اسرائيل” حق مراقبة مسرح الشمال الشرقي مقابل غض نظرها عن عملية هندسة تركية لخرائط النفوذ غرب الفرات، والنتيجة خنق استقلال القرار السوري عبر ضغط متزامن من الشمال والجنوب الغربي.

أما الخطر الثالث فيظهر في اللجنة الرباعية الخاصة بمعتقلي داعش التي تجمع تركيا والولايات المتحدة والعراق وسوريا، فظاهريا تبدو عملا انسانيا لتنظيم ملفات نساء التنظيم وأطفاله، لكن مضمونها الحقيقي هو تكريس وصاية أمنية رباعية تضع مصير شرق الفرات تحت قبعة تفاوض مستمر؛ لا يملك فيه السوريون غير مقعد المتفرج، تحالف أنقرة مع واشنطن في هذا الملف يسحب الميدان من تحت أقدام موسكو وطهران ويمنح الجيش التركي موطئ قدم قانوني في عمق الجزيرة حيث منابع النفط والقمح.

خطوط الغاز وسلاح التبعية الطاقية

في الداخل السوري يتخذ المشروع التركي طابعا ديموغرافيا، فأردوغان يعرض عودة ملايين اللاجئين كمبادرة إنسانية، بينما هي أداة لاعادة توزيع الكثافة السكانية وفق خطوط موالية لأنقرة، فتوطين عائلات في نطاق آمن تمتد حدوده من اعزاز الى جرابلس ثم جنوبا الى تل رفعت، يرسم قوسا بشريا يقطع التواصل بين أكراد سورية وأكراد تركيا، ويخلق حزام نفوذ اقتصادي تديره شركات المقاولات التركية، وهكذا تتحول مأساة النزوح الى رافعة لبناء سوق استهلاكية سورية مرتبطة بالليرة وتستورد الاسمنت والطاقة من الشمال.

تعمل أنقرة أيضا على بناء شبكة أنابيب غاز تعبر ريف حلب وصولا الى حمص، ويروج الاعلام التركي لهذه الخطة باعتبارها مساهمة في اعادة الاعمار، لكن في الواقع تؤسس بنية تحتية تجعل الاقتصاد السوري رهينة لتركيا، فكل عقد صيانة أو زيادة ضغط سيتطلب موافقة وزارة الطاقة في أنقرة، وبهذا تنزلق سوريا الى وضع التبعية الطاقية الذي يعتبر من أخطر أشكال السيطرة الناعمة.

التوازن الاقليمي وارتدادات الطموح العثماني

لا يقف الطموح التركي عند حدود الاقتصاد، أردوغان يراهن على بناء القوة العسكرية السورية بعد تفكيك القديمة، وتعويم قيادات هي في النهاية “زعماء ميليشبات” رعتها تركيا منذ 2011، وهذا الأمر يفتح الباب لتحول الجيش السوري الى قوة ذات ولاء متنوع لكنه صب بمصلحة أنقرة، ويرفع احتمال صدام مستقبلي بين بين مجموعات عسكرية موزعة جغرافيا وتملك مرونة تغيير الولاء، وإن لم يتم ضبط هذا التناقض فإن المؤسسة العسكرية السورية المزمع تأسيسها ستنفجر من الداخل وتسقط البلاد في دوامة حرب جديدة.

الخطورة الاستراتيجية لا تتعلق بسورية فقط، فنجاح تركيا في قطع الممر الكردي وانشاء اقليم نفوذ يمتد حتى تخوم دير الزور سيمنحها ثقل تفاوض مع بغداد وطهران، ويحولها الى ضابط ايقاع كامل للهلال الخصيب، عندها ستواجه دول الإقليم معضلة كبرى، فهل تقبل بطفرة عثمانية على حساب دورها في المتوسط أم تخاطر بمواجهة مفتوحة مع شريك عضوي في تحالفات دولية مثل “الناتو”.

يهدد السلوك التركي مبدأ التعددية القطبية أيضا، فمشروع أردوغان يزاوج خطابا بريا أوراسيا مع ممارسة عملية تخدم الاطلسية؛ لان كل توسع للعضو الجنوبي في الناتو داخل قلب الارض (Heart Land) يحد من مجال مناورات روسيا والصين ويمنح الغرب منصات متقدمة، حيث يتحول اللاعب الذي يدعي تمثيل البر الى حصان طروادة يفتح بوابات قلب العالم أمام أساطيل البحر ولو من دون نوايا معلنة.

ارتداد الرمال السورية

ثقافيا تلوح مخاطر محو التنوع السوري، فالخطاب التركي الذي يحتضن العثمانية الجديدة يغري بعض النخب الدينية للعودة تحت عباءة إرث الخلافة، ويدفع جمهورا آخر لإغراءات استثمارات شرق المتوسط عبر العجلة الاقتصادية التركية، لكنه في الوقت ذاته يقفل الباب أمام بلورة هوية وطنية سورية تتجاوز الاثنيات والطوائف، أنقرة تريد سورية قابلة للضبط لا دولة ذات ارادة مستقلة، وهذا التضييق على الحيز الوطني سينتج انفجارات رد فعل عاجلا أم آجلا.

في النهاية تؤكد أشباح التاريخ أن كل توسع لا يتكئ على توازن حقيقي مصيره الارتداد، ومشروع أردوغان في سوريا يقوم على اختلال ديموغرافي وتناقض أمني واعتماد كثيف على شراكات متقلبة، وعندما تتغير نسب القوى أو تصعد موجة قومية سورية جديدة سيتحول الاستثمار التركي الى عبء، وستجد أنقرة نفسها أمام مقاومة مسلحة في المناطق التي ظلت هادئة بفضل المال والدعم الاغاثي، وتنكشف خطوط الغاز أمام عمليات تخريب تعيد البلاد والعابر معا الى عصر الفوضى.

ان قراءة المخاطر لا تعني الانتصار لبديل تسلطي أو لاشتباك دائم بل تعني الادراك أن سورية تحتاج شبكة ضمانات اقليمية لا احتكارا أحاديا يختبئ خلف شعارات اعادة الاعمار، والطريق الوحيد لتثبيت الاستقرار هو عقد اقليمي متوازن الى جانب أنقرة لا تحت جناحها، ودون ذلك سيظل المشروع التركي في حدوده الحالية فتيل صراع جديد في قلب الشرق الاوسط المقبل.

فكرتين عن“الطموح التركي في سورية بين جغرافيا البر وجاذبية البحر قراءة نقدية لمخاطر مشروع أردوغان”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *