المشهد السوري ما بعد كانون الأول 2024، يطرح مفارقة “العدالة الانتقالية” التي كانت شعارا طوال عقد ونصف من الحديث عن حل الأزمة السورية، فالهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في سوريا التي تشكلت في 17 أيار 2025، بعد مجازر الساحل وتصفيات عشوائية مستمرة ضد العسكريين الذي سلموا أنفسهم وتم تسوية وضعهم قانونيا؛ تطرح حالة لا تشبه ما تنادي به المنظومات الحقوقية أو تجارب المصالحة الناجحة في أماكن أخرى من العالم.
يبدو أن سوريا الجديدة تُنتج ما يمكن وصفه بعدالة مشروطة بانتصار سياسي، لا بمبدأ الإنصاف، فبينما يَسقط العسكريون السوريون السابقون في فخ “تسوية” لم تكتمل، يصعد مقاتلون أجانب، من الإيغور تحديدا، إلى مواقع النفوذ العسكري والسياسي، في مفارقة تفضح انزياحا حادا عن منطق العدالة إلى منطق الولاء.
بطاقات مؤقتة… وعدالة مؤجلة
مع نهاية سلطة البعث أُعلن عن برنامج “التسوية” للعسكريين السابقين كإجراء مرحلي لاحتواء الانقسام المجتمعي وإعادة دمج عناصر النظام السابق في دولة يُفترض أنها “جديدة”، وتم اعتبار هذا الأمر خطوة في اتجاه العدالة الانتقالية، لكن ثلاث كلمات تلخص ما جرى لاحقا: التسوية لم تُنجز.
البطاقات المؤقتة التي مُنحت للعسكريين السابقين، والمفترض أن تُستبدل ببطاقات مدنية دائمة، انتهت صلاحيتها دون تنفيذ الوعد، ووجدت فئة واسعة من السوريين نفسها دون حماية قانونية، محرومة من أبسط الحقوق: العمل، التنقل، وحتى شراء شريحة هاتف.
غياب أي تفسير رسمي لهذا الأمر ليس مجرد تقصير بيروقراطي، بل علامة على أن ما سُمي “عدالة انتقالية” كان في جوهره أداة لتهدئة سياسية مؤقتة، لا أكثر، فالعدالة الانتقالية في تعريفها الأساسي، تقوم على الاعتراف، الإنصاف، والمحاسبة، ولا شيء من ذلك تحقق في هذه الحالة، فبدلا من إعادة دمجهم، تُرك العسكريون السابقون في حالة من العراء القانوني، كما لو أن “التسوية” لم تكن سوى اختبار ولاء مؤقت، لا تعهدا قانونيا واجب النفاذ.

مفارقة الإيغور: مقاتلون أجانب في قلب الدولة
في تناقض صارخ، نُفاجأ بأن مقاتلين أجانب وتحديدا من الإيغور المنتمين إلى الحزب الإسلامي التركستاني لا يُعاملون فقط كحلفاء، بل يُدمجون في الجيش السوري الجديد ويُمنحون امتيازات تصل إلى حد الحديث عن منح الجنسية السورية.
أحد أبرز هؤلاء هو عبد العزيز داود حدابردي، الذي يُشار إليه كضابط برتبة عميد، فكيف لشخص أجنبي قاتل في سوريا بصفته الجهادية أن يصبح ضابطا رفيعا في مؤسسة من المفترض أن تكون وطنية بامتياز؟ الإجابة تحمل طابعا سياسيا أكثر منه أمنيا أو قانونيا، فالنظام الجديد يكافئ من قاتل إلى جانبه، بغض النظر عن هويته أو خلفيته.
الرسالة التي تُرسل إلى المجتمع السوري واضحة ومقلقة، فالولاء الميداني أهم من الهوية الوطنية، والانتماء العرقي أو الديني ليس عائقا إذا ما ثبتت جدارتك في إسقاط النظام السابق.

أزمة أولويات أم سياسة إقصاء ناعمة؟
حين يُقابل الإقصاء القانوني للعسكريين السوريين السابقين في الجيش السوري بترقية مقاتلين أجانب، فإننا لا نتحدث فقط عن إخلال في توازنات المصالحة، بل عن سياسة فرز ناعمة تُعيد إنتاج الاستقطاب على أسس جديدة، فالحكومة التي تدّعي بناء دولة مدنية ترتكب أخطر ما يمكن ارتكابه في مرحلة انتقالية، حيث التفريق بين المواطنين على أساس مواقفهم السابقة، وتفضيل المقاتلين على الإداريين، والأجانب على المحليين.
هذه المفارقة تضرب جوهر العدالة الانتقالية، فبدلا من إصلاح مؤسسات الدولة وضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي، نرى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة بطريقة انتقائية تُقصي وتُكافئ بحسب معيار الولاء السياسي والعسكري، لا وفقا لمبادئ المواطنة والعدالة.
والأثر الاجتماعي لهذه السياسة مرعب بقدر ما هو متوقع، حيث بدأ يتشكّل شعور بعدم الأمان لدى الفئات التي التحقت ببرنامج التسوية، حيث أصبحوا هدفا لحالات انتقامية إضافة لحرمانهم من حقوقهم المدنية، وهؤلاء لا يشعرون فقط بأنهم تعرضوا للظلم، بل يرون أن الدولة الجديدة التي يفترض أنها تُمثل كل السوريين تتعامل معهم كمواطنين من درجة ثانية.
هذا الوضع ينذر بانفجار اجتماعي لا يقل خطرا عن الحرب الأهلية ذاتها، فالتهميش القانوني يخلق فراغا سرعان ما تملؤه قوى متطرفة أو شبكات مصالح موازية، وإذا كانت العدالة الانتقالية تهدف إلى منع عودة العنف من خلال الإنصاف، فإن ما يجري حاليا في سوريا وصفة مثالية لإعادة إنتاجه.
ثمّة بُعد دولي كذلك لا يمكن تجاهله؛ فدمج الإيغور في الجيش السوري الجديد يُثير حفيظة الصين، التي تُصنّف الحزب الإسلامي التركستاني منظمة إرهابية، ووجود هؤلاء داخل مؤسسة رسمية في دولة ذات سيادة يطرح إشكالات خطيرة، فكيف ستتعامل الحكومة السورية الجديدة مع ضغط بكين؟ هل ستخضع؟ أم ستستثمر هذا الملف كورقة تفاوض دولية؟ وفي كلتا الحالتين، فإن دمج هؤلاء المقاتلين لا يمكن أن يُفهم إلا بوصفه مخاطرة جيوسياسية، لا خيارا سياديا محسوبا.
ما الذي يجب أن يحدث الآن؟
العدالة الانتقالية ليست مجرد شعار، فهي عملية دقيقة، معقدة، وتحتاج إلى صدقية سياسية، شفافية، ومؤسسات قادرة، ما يجري في سوريا اليوم يُشير إلى غياب كل هذه العناصر، وأول ما ينبغي فعله هو معالجة فورية لأزمة البطاقات المدنية، ويجب إصدارها دون تأخير، وفق آلية شفافة يُشرف عليها طرف مستقل.
لا بد من مراجعة معايير دمج الأفراد في مؤسسات الدولة، خصوصا الجيش، وإعادة النظر في سياسات منح الجنسية، حتى لا تتحول إلى مكافأة على القتال بدلا من كونها تعبيرا عن انتماء حقيقي للدولة.
ما يحدث في سوريا هو نموذج تحذيري لما يمكن أن تؤول إليه العدالة الانتقالية إذا فُهمت كعملية إدارية تُدار من الأعلى، بدل أن تكون عملية مجتمعية تُبنى على الاعتراف والمحاسبة والإدماج المتوازن، الشرعية السياسية لا تُبنى على الولاء، بل على القدرة على إنصاف الجميع، لا البعض فقط.
أخشى أن تؤدي هذه السياسة إلى انفجار اجتماعي ليس في سورية وحدها بل في محيطها القريب ما يخدم إسرائيل التي تعمل بالتعاون مع بعض الداخل السوري لادامة الفوضى
تحياتي مازن واهنءك على شجاعتك وبعد نظرك