أزمة سوريا أنها تملك “دولة سائلة” حسب تعبير زيغمونت باومان، فهي فقدت صلابتها التقليدية، ولم تعد قادرة على أداء وظائفها مثل حماية الحدود، والسيطرة على الاقتصاد الوطني، بل أصبحت هشة، مرنة، وقابلة للانكماش والتكيّف، ولم تعد السيادة الوطنية قابلة للفهم ورسم الاستراتيجيات، والعقوبات الأوروبية الأخيرة رغم كونها محدودة، لكنها مربكة لأبعد الحدود نتيجة “سيولة الدولة” التي لم تعد قادرة على خلق انتماء جماعي.
حزمة العقوبات الأخيرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي واستهدفت شخصيات وكيانات سورية متورطة في مجازر الساحل السوري التي وقعت في آذار من العام نفسه، تأتي في سياق التعامل مع “السيولة” في الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، فالعواصم الأوروبية تدرك تماما أن تلك العقوبات لا تحمل موقفا سياسيا بل مساحة إرباك تنعكس على أي قرار حكومي في الداخل السوري.
السياق السياسي–العسكري للعقوبات
تُمثّل العقوبات الأوروبية مؤشرا على آليات التعامل الدولي حيال فصائل المعارضة المسلحة، حيث يتم التعامل معها كجهات متورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وشملت قائمة العقوبات شخصيات بارزة مثل محمد حسين الجاسم (أبو عمشة) وسيف بولاد (أبو بكر)، إضافة إلى فصائل “السلطان سليمان شاه” و”الحمزة” و”السلطان مراد”، بسبب ضلوعها في جرائم قتل وتعذيب وتهجير قسري للمدنيين، لا سيما في مناطق الساحل السوري وعفرين وحلب.
في الوقت ذاته، رفع الاتحاد الأوروبي جزءا من العقوبات الاقتصادية المفروضة سابقا على سوريا، في خطوة دعمتها كل من فرنسا وألمانيا، ووصفت بأنها تشجيع للحكومة الانتقالية على المضي في مسار العدالة والمصالحة.
الفصائلية المُقنّعة: دمج أم إعادة تدوير؟
رغم أن الحكومة الجديدة أعلنت مرارا عن “دمج الفصائل” داخل مؤسسة الجيش الوطني، إلا أن الواقع يشير إلى أن تلك الفصائل احتفظت ببنيتها القيادية، والقادة المدرجون على لوائح العقوبات، أو المرتبطون بهم، ما زالوا يحتفظون بنفوذ واسع داخل الأجهزة العسكرية والأمنية، ووزير الدفاع نفسه، المهندس الزراعي سابقا، لعب دورا محوريا في محاولات الدمج، في حين أن معاونه المباشر، فهيم عيسى، يقود فرقة “السلطان مراد” المعاقَبة أوروبيا.
تعكس هذه المعطيات هشاشة مشروع الجيش الوطني، حيث أُعيد تدوير ذات القادة تحت تسميات جديدة دون إصلاح فعلي في العقيدة أو السلوك.
لجنة التحقيق المحلية: اختبار الشرعية
بعد المجازر، شكلت الحكومة لجنة تحقيق محلية بهدف كشف ملابسات الأحداث ومحاسبة الجناة، إلا أن مراقبين يشككون في قدرة اللجنة على إصدار نتائج تتطابق مع المعايير الدولية، أو حتى مع قرارات الاتحاد الأوروبي، وبعض التقارير تحدثت عن تعاون غير معلن بين بعض مسؤولي اللجنة والدوائر الأوروبية، في مسعى لتحويل العقوبات إلى فرصة لتطهير الجيش من العناصر المتمردة داخليا، دون الدخول في مواجهة مباشرة.
لكن اختبار الشرعية يبدو مستحيلا في ظل “الدولة السائلة”، فهناك واقع يصعب تفكيكه يتداخل فيه شبكات الفصائل مع بنيتي الدولة والسلطة، ومن الصعب فهم كيف يمكن لمؤسسات الدولة “معاقبة” قوتها وقادتها الذي يتحكمون بمفاصل “الأمن”، وفرض العقوبات على شخصيات مركزية في الجيش الجديد يضع الحكومة أمام معضلة صعبة: هل تواصل احتضانهم وتخسر ثقة المجتمع الدولي، أم تسعى لإقصائهم وتخاطر بانفجار داخلي؟
التجربة الميدانية تؤكد أن الولاءات الشخصية والفصائلية لا تزال أقوى من الانضباط المؤسسي، ما يجعل خيار الإقصاء محفوفا بمخاطر حقيقية على تماسك الأجهزة العسكرية، ويقف “الجيش الجديد” أمام مفترق طرق: إما أن يتحول إلى نواة جيش وطني حقيقي، أو ينفجر من داخله تحت وطأة التناقضات والانقسامات.
العقوبات كأداة تفكيك ناعم
من زاوية تحليلية، يمكن النظر إلى العقوبات الأوروبية بوصفها أداة لتفكيك البنية الفصائلية بشكل ناعم، فهي تتيح للحكومة الانتقالية ذريعة للقيام بعملية تطهير داخلية تحت غطاء دولي، كما أنها توجه رسالة واضحة للفصائل المسلحة بأن عهد الإفلات من العقاب قد ولّى، لكن هذه الاستراتيجية تتطلب سياسات داعمة: برامج إعادة تأهيل ودمج للمقاتلين السابقين، وتقوية دور المجتمع المدني، وتوسيع رقعة الرقابة البرلمانية والقضائية على عمل الأجهزة الأمنية، وكل هذه الأمور غير متوفرة في سوريا.
عمليا لا ينبغي قراءة العقوبات فقط في بعدها القانوني، بل كجزء من مسار دولي، فهي ليست امتحانا للسلطة الجديدة، بل أداة للتحكم بالمسارات السورية، والعواصم الأوروبية لا تنظر إلى هذا المسار من زاوية نجاح تفكيك البنية الفصائلية، بل في التعامل مع مفاصل الدولة ورسم سياساتها، فالتخلص من الحالة الفصائلية أمر مطلوب داخليا، لكنه على المستوى الدولية جزء من رسم المنظومة الإقليمية.