اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا إعادة إنتاج النخب أم تأسيس شرعية جديدة؟

في بلد خرج للتو من عقد دموي رسم ملامح هشاشته السياسية والاجتماعية، أطل مرسوم رئاسي جديد في 20 حزيران 2025، لا بوصفه إجراء تنظيميا عاديا، بل كإشارة إلى الشكل الذي تنوي به السلطة إعادة إنتاج شرعيتها، فقد أصدر رئيس الجمهورية المرسوم رقم 266، معلنا عن تشكيل “اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب” وتحديد عدد أعضاء المجلس بـ150 عضوا، يُنتخب ثلثاهم عبر هيئات انتخابية محلية، بينما يُعيَّن الثلث الباقي بقرار مباشر من الرئيس.

ليست المسألة هنا في الأرقام أو التوزيع الجغرافي فحسب، بل في الكيفية التي يُراد بها إعادة تشغيل الدولة من خلال لجنة عليا مكوّنة من 13 عضوا، بلا آليات رقابة مستقلة، وتضطلع بكامل مفاتيح العملية الانتخابية، من تشكيل الهيئات إلى إعلان النتائج.

السؤال لم يعد ما إذا كانت الانتخابات ستُجرى؛ بل هل تؤسس هذه البنية الجديدة لثقة عامة حقيقية، أم تعيد إنتاج منطق السيادة المنقوصة الذي أطاح بشرعية المؤسسات السورية في المقام الأول؟ فعندما يغيب الحياد وتختفي العدالة الإجرائية، لا يمكن للمؤسسات أن تولّد سوى مزيد من الشك والانقسام.

هذه الخطوة، التي تأتي في سياق تحوّلات داخلية وإقليمية متسارعة، وتُقدّم مثالاً كلاسيكياً على ما يسميه الباحث السويدي بو روثستين بـ”التصميم المؤسسي المشروط بالثقة العامة”، أي أن فعالية المؤسسات السياسية لا تُقاس فقط بوجودها الشكلي أو بنصوصها، بل بقدرتها على إنتاج الثقة بين المواطنين والدولة، عبر ممارسات عادلة وشاملة وغير متحيزة.

من التمثيل إلى التعيين: معضلة الشرعية التشاركية

ينص المرسوم بوضوح على أن ثلث أعضاء مجلس الشعب (50 عضوا) سيتم تعيينهم مباشرة من قبل رئيس الجمهورية، بينما يُنتخب الثلثان (100 عضو) من خلال “هيئات معتبرة”، بإشراف اللجنة العليا، وإذا كانت النظم شبه الرئاسية تسمح بوجود بعض درجات التعيين في المؤسسات النيابية، فإن ما يثير القلق في السياق السوري هو غياب معايير واضحة وشفافة لهذا التعيين، مما يفتح الباب أمام تعميق التداخل بين النخبة التنفيذية والتشريعية.

عملياً فإن الحوكمة الرشيدة لا تقف عند حدود “الإجراءات الرسمية”، بل تشمل أيضاً مستوى الحياد والتجرد في ممارسات الدولة، وتعيين ثلث البرلمان، في غياب آلية رقابة مستقلة، يُنظر إليه كإعادة تدوير للنخب القديمة داخل بنية القرار السياسي، وهو ما يقوّض إمكانية تحول البرلمان إلى منصة رقابية أو تشريعية فاعلة.

الخريطة التمثيلية: مقاعد في غياب السيادة

يتضمن المرسوم الرئاسي جدولا مفصلا لتوزيع مقاعد مجلس الشعب على المحافظات الأربع عشرة، كالآتي:

من النظرة الأولى، يبدو أن التوزيع يستند إلى معيار سكاني، غير أن السيادة لم تعد الإطار الذي تُفهم من خلاله الخرائط الإدارية، فالمشهد السوري بعد 8 كانون الأول 2014 بات يدار عملياً من قبل هيئة تحرير الشام، التي أحكمت سيطرتها على كامل البلاد، بما فيها العاصمة دمشق، تحت غطاء “السلطة الانتقالية” الجديدة، في هذا السياق، لم تعد إدلب استثناءً خارج السيطرة، بل تحوّلت إلى نموذج معمم على كامل الجغرافيا السورية.

وبينما يُفهم توزيع المقاعد في مناطق مثل طرطوس أو اللاذقية كجزء من استحقاق إداري روتيني، فإن الواقع الجديد يطرح إشكالا أكثر جذرية؛ فمن يملك الحق في التمثيل، ومن يُعبّر عن من؟ فأزمة التمثيل تنبع من افتقاد المؤسسات للشرعية الإدراكية (الثقةالتي يوليها الأفراد للمؤسسات) وليس من التوزيع العددي، فالانتخابات يتم بناؤها في ظل غياب سيادة قانونية جامعة، ووجود قوى فاعلة تتحكم بالحقل الأمني والسياسي خارج الأطر الوطنية.

في ظل هذا الانقلاب في شكل السلطة، يبقى السؤال الأعمق: هل يشعر المواطن في الرقة أو السويداء أو غيرها أن صوته يُسهم في تشكيل السلطة، أم أن العملية برمّتها مجرد إعادة إنتاج نظام تم إلباسه ثوبا انتخابيا دون أي مضمون ديمقراطي فعلي؟

فئتا الأعيان والمثقفين”: فئوية تقطع مع المساواة

نقطة أخرى تستدعي التأمل هي ما ورد في المرسوم من توزيع التمثيل وفق فئتين الأعيان والمثقفين، وهذا التصنيف، وإن بدا “رمزيا” أو يهدف لتوازن اجتماعي، يُحيل إلى منطق الدولة السلطوية التقليدية، حيث يُنتقى ممثلون من نخب قبلية أو عشائرية أو نخب أكاديمية موالية، وليس على أساس برامج سياسية أو حزبية مفتوحة.

إن الحوكمة العادلة تعتمد على مؤسسات تحكمها القواعد، لا الولاءات، وتصنيف المرشحين سلفاً إلى “أعيان” و”مثقفين” ليس إلا امتدادا لمنظور يجزّئ المجتمع على أساسات سلطوية، ويعزز سطوة الشبكات المحلية المرتبطة بالمركز، لا المواطنين ككتلة انتخابية حرة.

اللجنة العليا: مؤسسات لا تُراقب نفسها

تشكيلة اللجنة العليا للانتخابات جاءت من 13 شخصا، جميعهم مُعيّنون، دون وجود مؤشرات على رقابة دولية أو إشراف قضائي محايد، وفي ظل انعدام الضمانات القانونية لإقالة أعضاء اللجنة أو الطعن في قراراتها، تبقى هذه اللجنة جهازا تنفيذيا تابعا للسلطة، لا مؤسسة رقابية مستقلة.

الفارق بين “الشرعية الشكلية” و”الشرعية الفعلية” يكمن في إدراك المواطنين لحيادية المؤسسات، فلجنة تُعيَّن من قبل السلطة، وتُشرف على انتخاب سلطة تشريعية يعين ثلثها رئيس الجمهورية، لن تكون بنظر الجمهور سوى امتداد للسلطة التنفيذية.

تكمن المعضلة الكبرى في هذا المرسوم في إعادة إنتاج الثقة في مؤسسات الحكم في بلد خرج من حرب كارثية، ويفتقر إلى التماسك الاجتماعي والسياسي، فإذا كانت الانتخابات وسيلة لاستعادة العقد الاجتماعي، فإنها هنا تبدو كأداة تجميل شرعي، لا تأسيس لمرحلة جديدة.

إن إصلاح الحوكمة يبدأ من القواعد الدنيا أي المحاسبة والحياد والعدالة الإجرائية والتمثيل المتوازن، وما لم تتم مراجعة بنية المرسوم من حيث طريقة تشكيل اللجنة، وآلية التعيين، وإعادة النظر في معيار توزيع المقاعد وفئات التمثيل، فإن المؤسسة التشريعية القادمة ستكون فاقدة للثقة العامة، وستبقى، كما هو الحال في تجارب كثيرة، أداة شكلية ضمن منظومة سلطوية أكثر منها دولة قانون ومؤسسات.

4 أفكار عن “اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا إعادة إنتاج النخب أم تأسيس شرعية جديدة؟”

  1. رئيس الجمهوريه لماذا يريد السيطرة على الفكر والعقل السوري الحضاري معقول مصالحه الشخصية وتفكيره الأناني فوق مصلحة الوطن انه يفتقد لحرية التعبير و احترام رأي الاخر والوطنية ومنطقه الغاء الاخرين لا يبني دولة ووطن

  2. يتعاطون مع سورية كأنها قبيلة زعيممها ديكتاتور متخلف. يسرني جدأ انكم تكشفون هذه العصابة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *