سعد لوستان
منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 ودخول سوريا مرحلة سياسية جديدة بقيادة قوى المعارضة المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، عاد إلى الواجهة سؤال جوهري:
هل نحن أمام ميلاد ديمقراطية تعبّر عن إرادة الشعب؟ أم أننا نشهد إعادة إنتاج لحكم النخب ولكن بلبوس جديد؟
لفهم هذا التحول يمكن الاستعانة بفكر المفكر الأمريكي البارز رايت ميلز (C. Wright Mills) الذي قدّم في كتابه الشهير The Power Elite تصوراً نقدياً لبنية السلطة، مفاده أن الديمقراطية قد تكون مجرد واجهة شكلية تخفي حكماً فعلياً تمارسه نخب ضيقة متداخلة المصالح، ومتحكمة بالمفاصل الأساسية للقرار، دون أن يكون للشعب دور حقيقي في صنع السياسات
رايت ميلز: ديمقراطية تحت هيمنة النخب
يرى ميلز أن السلطة لا تُمارَس فعلياً من قبل “الشعب” كما تفترض النماذج الديمقراطية، بل تتجمع في يد ثلاث نخب رئيسية مترابطة: النخبة السياسية، النخبة العسكرية، والنخبة الاقتصادية.
هذه النخب تتبادل المواقع والمصالح وتحتكر القرار، فيما يُترك للجماهير هامش ضئيل للمشاركة في طقوس ديمقراطية لا تغيّر شيئاً في جوهر السلطة.
سوريا بعد سقوط النظام: هل تغير الجوهر؟
إذا طبقنا هذا الإطار على الحالة السورية الراهنة، يتضح أن التحدي لم يكن في إسقاط النظام وهياكله، بل في إعادة تشكيل بنية الحكم ذاتها
ورغم أن مشهد انهيار نظام الأسد بدا في ظاهره لحظة تحرر تاريخية، إلا أن الصيغة التي بدأت تتشكل بعدها تشير إلى بروز نخب جديدة تكرس احتكار السلطة، ولكن هذه المرة بمرجعيات دينية وتنظيمات إسلامية، تختلف شكلاً لا مضموناً.
هيئة تحرير الشام: نخبة دينية مسلحة تحكم
منذ دخول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وتثبيت سيطرتها على مؤسسات الدولة، بات واضحاً أن سوريا دخلت عهداً جديداً تدار فيه السلطة من قبل نخبة إسلامية مسلحة، تتحكم في القرار وتعيد تنظيم الحياة العامة وفق رؤيتها الأيديولوجية.
1. احتكار القرار السياسي:
ورغم إنشاء “مجلس الشورى” و”الهيئة التنفيذية”، فإن السلطة الفعلية لا تزال مركزة في يد القيادة العسكرية والشرعية للهيئة.
القرارات تُتخذ خارج الأطر المؤسسية وفي غياب كامل للشفافية والمساءلة
2. النخبة الدينية كأداة للشرعنة:
تماماً كما وصف ميلز تداخل النخب، فإن الهيئة تدمج بين القرار العسكري والفتوى الشرعية، حيث تستخدم المؤسسة الدينية لتبرير السياسات الأمنية والاقتصادية، وتكميم الأصوات المعارضة تحت شعار “الانحراف عن الشريعة”
وفي هذا السياق، بدأت النخبة الحاكمة اليوم تمارس سياسات تتجاوز حدود الاستبداد التقليدي، إلى نهج يفرط بمقدرات البلاد وهويتها السيادية على حد سواء.
فقد ظهرت مؤشرات واضحة على بيع أصول استراتيجية من مرافئ ومطارات وموانئ وهياكل رئيسية من القطاع العام لصالح قوى إقليمية ودولية، في اتفاقات يشوبها الغموض، وتُعقد بعيداً عن أي رقابة أو مساءلة
ولم يقف الأمر عند حدود الاقتصاد، بل تعداه إلى تفريط صريح بالسيادة الوطنية، خاصة في مناطق الجنوب السوري ومرتفعات الجولان، حيث تجري باستمرار اللقاءات والإملاءات الأمنية التي تخدم أولاً وأخيراً وجود وأمان الدولة العبرية
وربما الأخطر هو قيام هذه النخب بتسليم وثائق وأراشيف المخابرات والأمن القومي، كانت بحوزة النظام السابق، إلى جهات معادية، في خطوة تشكل سابقة تاريخية في تفكيك الدولة وتسريب أسرارها لمصلحة العدو
والمفارقة أن نظام الأسد، رغم فساده واستبداده، لم يفرط بأصول الدولة أو وثائقها السيادية بهذا الشكل العلني والمنهجي، أما “النخبة” الحالية فتمارس مشروعاً أكثر خطراً، جوهره تفكيك الدولة السورية نفسها من الداخل، تحت غطاء الشرعية الدينية والتحرير الثوري
3. التكنوقراط كواجهة:
عُيّن عدد من الشخصيات التكنوقراطية لإدارة بعض الملفات الخدمية والاقتصادية في محاولة لإظهار انفتاح إداري، لكنهم لا يملكون سلطة حقيقية، بل يعملون ضمن سقف صارم تحدده القيادة الأيديولوجية الاسلاموية، مما يجعلهم واجهة بلا مضمون حقيقي للحكم الرشيد
4. السيطرة على دمشق من رمز إلى واقع
تحولت دمشق من حلم في خطاب المعارضة إلى مركز سلطة فعلي، الهيئة تدير العاصمة وتعيد تنظيمها وفق منظومتها الفكرية والعسكرية، مما يكرس انتقالها من فصيل مقاتل إلى نخبة حاكمة تحتكر القرار وتمارس الاستبداد.
الديمقراطية كقناع، والدولة كمرتع للإرهاب
في هذا السياق، تصبح تحذيرات رايت ميلز أكثر إلحاحاً
فغياب النظام السابق لا يعني بالضرورة بداية ديمقراطية، بل ربما يمهد لاستبداد أشد قسوة تمارسه نخبة جديدة تستخدم “الشرعية الثورية” أو “الخطاب الديني” كغطاء.
والأخطر من ذلك أن سوريا، في ظل هذا المشهد الجديد، بدأت تتحول تدريجياً إلى دولة إرهاب، حيث تنشط جماعات إرهابية، وتتحول البلاد إلى ملاذ آمن للإرهابيين الأجانب والمجرمين المطلوبين من مختلف الجنسيات وشتى أنحاء العالم، في ظل غياب نظام وطني ودولة قانون.
هذا التحول يهدد لا فقط الداخل السوري، بل الأمن الإقليمي والدولي.
من يحكم؟ أم كيف يُحكم؟
التجربة السورية بعد الأسد تفتح الباب على سؤال أعمق من مجرد هوية الحاكم:
هل تم تفكيك بنية الحكم الاستبدادي؟ أم أننا أمام إعادة تدوير للنخب في صورة جديدة؟
إن فكر رايت ميلز يذكرنا بأن الخطر لا يكمن في الوجوه، بل في البُنى، حيث تكون سوريا قد خرجت من قبضة “نخبة البعث” لتقع في قبضة “نخبة الجهاد والإسلام السياسي” دون أن تخطو نحو الخلاص الديمقراطي الحقيقي الذي حلم به السوريون منذ 2011 بل انتقلت إلى مرحلة أشد ظلمة ترزح فيها البلاد تحت حكم نخبة تمارس التسلط، وتفرط في السيادة، وتبيع الوطن باسم الدين أو الثورة
وهنا يبقى السؤال معلّقاً في وجه التاريخ وجماهير المشروع الثوري:
هل كانت الثورة لاستعادة الوطن؟ أم لتسليمه بثمن بخس لسلطة جديدة لا تختلف عن سابقتها إلا بالشعار؟
القراءة لك عزيزي سعد هو دائما تجربة مختلفة … تحليل فيه من وضوح “رايت ميلز” ما يكفي لخلخلة أوهام الاستقرار الزائف، ومن الواقعية ما يكشف انعدام التمثيل الديمقراطي عندما يجري اختزاله في نخب مغلقة، وما افظع الكارثة حين تكون النخب دينية، تدعي احتكار القرار و الرصاص وتعتمد نفي الآخر.
والذي يدفع الثمن دائما هو الشعب… وسوريا.