وسط التصعيد العسكري بين “إسرائيل” وإيران، يظهر بوضوح تباينات جوهرية في مفهومي النصر لدى كلا الطرفين، ولا يقتصر التباين على الأهداف العسكرية، بل يمتد ليشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية، والإقليمية.
استبقت “إسرائيل” كل الاحتمالات السياسية بهجومها المفاجئ على إيران، وبأسلوب الصدمة المعتاد لديها كانت ضربتها الأولى هي “حرب اغتيالات”، ما يؤشر أن مسألة “النووي الإيراني” قضية ضمن سياق الحرب، والهدف المركزي خلق فجوة سياسية عبر إقصاء قيادات عسكرية، ورغم أن طهران قادرة على إيجاد بدائل داخل قياداتها، إلا أن “إسرائيل” تطمح لكسر التوازن داخل عمق النظام السياسي، وبشكل يساعدها على تحقيق اختراق عميق.
إسرائيل.. أزمة “جغرافية”
أزمة “إسرائيل” الوجودية في “الجغرافية” التي تحكم كافة آلياتها السياسية، فالمسألة ليست في ضم أرض جديدة، إنما في قدرتها على كسر المخاطر نتيجة وجودها على شريط ساحلي يناقض بشكل واضح مسألة وجودها داخل دول تحمل ثقافة متناقضة معها، وترفضها ليس وفق قياس سياسي بل ضمن المزاج الحضاري لشعوب تملك تراثا منفتحا لا يتسق مع طبيعة “اللون الإسرائيلي” القائم.
وجود “إسرائيل” محكوم بكسر الطوق الجغرافي الذي يرسم وجودها، وهذا الأمر الذي يبدو مستحيلا وفق الشكل الكلاسيكي للأنشطة العسكرية تضمنه إسرائيل بـ”الذراع الطويلة” عبر سلاح الجو، وبعد اتاحة “توازن الردع” الذي يجعلها “محشورة في جغرافيا ضيقة، وهذا الأمر يفسر التوجه “الإسرائيلي” في منع إيران من تمرير برنامجها النووي، رغم أن “تل أبيب” لديها مثل هذا المشروع منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي.
القضاء على التهديد النووي الإيراني
في 13 يونيو 2025، شنت “إسرائيل” عملية عسكرية واسعة النطاق ضد المنشآت النووية الإيرانية، بما في ذلك منشآت نطنز وفوردو، بالإضافة إلى اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، هذه الضربة، التي أُطلق عليها اسم “الأسد الصاعد”، تهدف إلى تعطيل البرنامج النووي الإيراني بشكل دائم،
وهي أيضا رسالة قوية إلى أعدائها وحلفائها على حد سواء، مفادها أنها مستعدة لاتخاذ إجراءات حاسمة لحماية أمنها القومي.
العملية جاءت في وقت حساس، حيث كانت هناك محاولات لاستئناف المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، ما يعكس رغبة إسرائيل في التأثير على مسار هذه المفاوضات، وعلى الرغم من عدم المشاركة المباشرة للولايات المتحدة في الهجوم، إلا أن هناك تقارير تشير إلى دعم استخباراتي أمريكي للعملية، بما في ذلك المساعدة في اعتراض الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية، وهذا الدعم يعكس التفاهم الاستراتيجي بين البلدين في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة.

إيران: النصر كاستمرار للسيادة الإقليمية
في اليوم التالي للهجوم الإسرائيلي، أعلنت إيران عن مقتل 78 شخصا، بينهم 60 شخصا في هجوم صاروخي استهدف مبنى سكني في طهران، ما أسفر عن مقتل 29 طفلا، هذا الهجوم يُعتبر من أكبر الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين الإيرانيين منذ بداية النزاع.
عمليا فإن إيران واجهت الضغوط العسكرية، عبر سعيها إلى تعزيز تحالفاتها مع دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية، بهدف الحصول على دعم تقني وعسكري يمكنها من مواجهة التحديات الحالية، هذا التعاون قد يشمل تبادل التكنولوجيا العسكرية والتنسيق الاستخباراتي.
معايير مشتركة للنصر
التناقض الإيراني – “الإسرائيلي” لا يتعلق في عمقه بمسائل يتناولها الإعلام ومرتبطة بفلسطين فقط، فالتعقيد هنا من وجود قوة “غير محايدة” وببرنامج نووي يمكن أن يصل لمرحلة الردع المشترك، فالذراع “الإسرائيلية” الطويلة جابهتها طهران بحلفاء متحركين في الجوار الجغرافي لـ”إسرائيل”، وبمحور إقليمي انهار عمليا بعد عامين من 7 تشرين الأول 2023، والمواجهة العسكرية اليوم هي على التوازن الإقليمي الجديد الذي تريد “إسرائيل” الدخول به كـ”إمبراطورية نفوذ” في مواجهة كتل جغرافية مثل تركيا وإيران وحتى المملكة العربية السعودية، فحتى الاتفاقيات الإبراهمية جزء من معركة النفوذ ضد صلابة السيادة في الدولة الممتدة جغرافيا.
- القدرة على الصمود والتصعيد
القدرة على تحمل الضغوط العسكرية والاقتصادية والتصعيد المستمر تُعتبر مؤشرا على القوة، و”إسرائيل”، على سبيل المثال، أظهرت قدرة على تنفيذ عمليات عسكرية معقدة، بينما تسعى إيران إلى تعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية لمواجهة التحديات.
- تأثير الحرب على الرأي العام الداخلي
تأثير الحرب على معنويات الشعب والنخبة السياسية في كلا البلدين يُعد مقياسا هاما، فالاستجابة الشعبية والسياسية للضغوط العسكرية والاقتصادية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على مسار الحرب ونتائجها.
- الضغط الدولي والإقليمي
الضغوط من الدول الكبرى والمنظمات الإقليمية تؤثر على مسار الحرب ونتائجها، والتفاعل الدولي مع النزاع، سواء من خلال الدعم أو الإدانة، يمكن أن يُحدث تغييرا في الديناميكيات الإقليمية والدولية.
بينما تسعى إسرائيل إلى تحقيق نصر عسكري يُؤمّن لها تفوقا أمنيا طويل الأمد، تركز إيران على الحفاظ على سيادتها الإقليمية وتعزيز تحالفاتها لمواجهة التحديات، وتُظهر هذه الحرب أن مفهومي النصر يختلفان بشكل جوهري بين الطرفين، ما يجعل التوصل إلى تسوية سلمية أمرا بالغ الصعوبة.

في ظل هذه المعطيات، يبقى التساؤل قائمً: هل يمكن للطرفين تجاوز تبايناتهما الجوهرية والتوصل إلى حل يُنهي النزاع، أم أن الحرب ستستمر لتُعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط بشكل جذري؟
