خلال أقل من ستة أشهر تحول قرار تجميد تسجيل عقود البيع والشراء الصادر في 8 كانون الأول 2024 إلى نقطة انعطاف مركزية في مسار الاقتصاد السوري، حيث لا ترتبط المسألة بشأن بيروقراطي عابر، بل بإعادة تشكيل البنية الطبقية ومسارات تراكم رأس المال في مرحلة ما بعد الحرب.
إن عملية التجميد تنطبق مع مصطلح الهندسة الطبقية الذي يعني السياسات والإجراءات التي تُعيدُ تشكيل البنية الطبقية عبر التحكم في الوصول إلى الأصول الإستراتيجية، كالأرض والعقار، بحيث تنقل القيمة من فئات اجتماعية أقل قوة إلى تحالفٍ من الدولة ورأس المال الكبير، المحلي منه والخارجي، ويستند هذا المفهوم إلى منهج آدم هانيه في تحليل “التشابك البنيوي” بين الدولة ورأس المال في المشرق، حيث تُستخدم أدوات قانونية مثل تجميد السجل العقاري أو قوانين إعادة التطوير؛ لخلق مشهدٍ استثماري جديد يتيح لجماعات رأسمالية مختارة شراء الأصول، وبهذا الشكل يتحوّل قرار 8 كانون الأول 2024 إلى إستراتيجية متعمدة لإعادة توزيع الثروة وإعادة فرز الشرائح الاجتماعية، لا إلى إجراء تقني عابر.
عنف الملكية وإعادة الضبط المؤسسي
التجميد بدأ بإيقاف المديرية العامة للمصالح العقارية والسجل العام للإسكان تحت ذريعة “تنظيم الملكيات المرتبطة بمسؤولي النظام السابق”، وتزامن مع قرارات وزارة العدل التي جمّدت العمل بالوكالات الخاصة، ونقلت صلاحية الموافقة الأمنية إلى كاتب العدل، ما قطع آخر مسارات نقل الملكية عبر القضاء، ثم جاء التعميم الصادر في 21 كانون الثاني 2025 ليمنع توثيق أي تصرف يفضي إلى إحداث أو نقل حق عيني، مستكمِلا إغلاق الدائرة القانونية، هذه السلسلة من الإجراءات أعادت تعريف العلاقة بين الدولة والملكية الخاصة، وغيبت الشفافية القانونية لمصلحة “شبكات إدارة ما بعد الحرب” التي ترتكز على النفوذ العسكري والأمني.
أفضى التجميد إلى جمود شبه كامل في حركة البيع والشراء، وخصوصا في دمشق وضواحيها، وفق بعض التقارير تم رصد تراجع يصل إلى 50 % في بعض المناطق، من دون أن ينعكس على زيادة الطلب بسبب انهيار القدرة الشرائية، في المقابل ارتفعت الإيجارات بنسبة تتراوح بين 20 و30 مليون ليرة شهريا في أحياء المالكي وأبو رمانة، وبلغت 100 مليون سنويا في المزة، وهو ما أكدته أيضا تقارير حول تضخم يفوق 25% في سوق الإيجار خلال ثلاثة أشهر فقط.
الأبعاد القانونية والإدارية
قرار وزارة العدل بتعليق مهل الطعن حتى منتصف كانون الثاني 2025 عطّل الضمانات القضائية وأبقى آلاف الدعاوى المعلقة دون بتّ، ما فاقم حالة عدم اليقين القانوني للسكان، وفي شمال شرقي سورية، زاد غياب تحديث السجلات العقارية من الشلل الاقتصادي، إذ امتنعت المحاكم عن النظر في نزاعات الملكية بسبب تضارب الوثائق وارتفاع حوادث التزوير، وهذا الفراغ القانوني فتح الباب أمام شبكات السمسرة والوسطاء، أعاد إنتاج علاقات سلطة موازية داخل السوق العقارية.
عمليا تقدّر الدراسات تكلفة إعادة بناء سورية بـ 400 مليار دولار، مع استعداد شركات تركية وخليجية للفوز بحصة الأسد من العقود المستقبلية، وبالعودة إلى أطروحة هانيه حول “تمفصل الريع النفطي والتمويل الإسلامي” في خلق دوائر تراكم تتجاوز الحدود الوطنية؛ فشلل السوق المحلية اليوم يُفرِغ الأصول من قيمتها الفعلية تمهيدا لبيعها لاحقا بخصومات كبيرة لشركات تملك سيولة، ما يكشف البعد الطبقي العابر للحدود لهذا القرار.
إضافة ذلك، فإن التحركات الغربية الأخيرة لتخفيف العقوبات تعطي إشارات خضراء للمستثمرين، لكنها تُبقي على درجة عالية من التعقيد الإجرائي، فالتفكك داخل المؤسسات السورية يضعف أصحاب الأملاك من ذوي الدخل المتوسط، ويعزز نفوذ الكيانات القادرة على تمويل الدعاوى واستصدار الموافقات عبر شبكات الولاء.
التأثير الاجتماعي والطبقي
تشير التقديرات إلى انخفاض صادرات سورية إلى 1.8 مليار دولار عام 2021، وهو تراجع يُفاقم اليوم ضعف الدخل الحقيقي للأسر مع استمرار العقوبات وتعطل القطاعات المنتجة، كما تؤكد بعض التقارير أيضا أن التركيبة النيوليبرالية ما قبل 2011 عادت بصيغ أكثر تطرفا، حيث تضاءل دور القطاع العام إلى ثلث الناتج فقط، فتجميد الملكية يُراكم الأزمات: يقيد الخيارات السكنية لملايين النازحين العائدين.
الآلية | كيف تُعيد تشكيل الطبقات؟ | |
تجميد نقل الملكية | يُعلِّق سيولة الأصل العقاري؛ فينخفض السعر تدريجيا بغياب الطلب، وهو ما يمكّن المستثمرين ذوي السيولة من الدولار من الشراء لاحقا بأقل من القيمة الحقيقية | |
تعليق مهل الطعن والقضاء | يحجب العدالة عن المالكين الصغار، بينما يملك رؤوس الأموال الكبرى الموارد القانونية للانتظار والتقاضي لاحقاً | |
الفراغ المؤسسي شمال-شرق سورية | يخلق “اقتصاد وساطة” تتحكم فيه شبكات محلية مسلحة تفرض إتاوات على أي صفقة مستقبلية (Smith Scholarworks) |
بهذا يتقاطع التجميد مع إستراتيجية أوسع لوضع قيمة الأرض «قيد الانتظار» ريثما تُفتح قنوات إعادة الإعمار بتمويل خارجي
من الرابح ومن الخاسر؟
الرابحون
- مطورون خليجيون وصناديق عقارية تركية تستهدف عقود الإعمار المستقبلية .
- شبكات رجال الأعمال الجدد المرتبطة بالسلطات العسكرية والإدارية التي تحتفظ بامتياز الوصول إلى الوثائق والبيانات.
الخاسرون
- اللاجئون والنازحون الذين فقدوا مستندات الملكية أو يواجهون رسوما باهظة لإثباتها.
- الأسر ذات الدخل المحدود التي ترزح تحت تضخم الإيجارات بعد انسداد قنوات الشراء .
- النساء اللواتي يواجهن حواجز قانونية إضافية بسبب نقص صكوك الوراثة والإشكاليات الشرعية في المساحات الريفية
مقارنة تاريخية وسياقية
الحالة | أداة الهندسة | النتيجة |
قانون المُناطق المركزية في دبي (2002) | تخصيص مساحات حضرية للأجانب فقط | صعود طبقة ملاكي عقار دولية وعزل السكان المحليين عن واجهة الساحل |
مشروع «المدينة الذكية» في القاهرة | نقل الأراضي العامة إلى شراكات PPP | تضخم أسعار الشقق خمسة أضعاف بين 2015-2023، وخروج الطبقة الوسطى من السوق |
لا ينبغي فهم تجميد السجل العقاري السوري كتحرك تقني، بل كجزء من “هندسة طبقية” تعيد توزيع الثروة العقارية لصالح رأس المال العابر للحدود، فالقرار قوّض السوق الداخلية، عمّق فجوة اللامساواة، ومهّد لموجة خصخصة مرتقَبة تحت لافتة إعادة الإعمارن لن يُعيد تنشيط هذا القطاع سوى مسار إصلاح يتبنى العدالة السكنية، يضمن شفافية السجل، ويكسر الحلقة الريعية بين الدولة ورأس المال الخارجي، بما يعيد تعريف حق السوريين في مدينة ما بعد الحرب.
