تجميد تسجيل الولادات والوفيات في سوريا: قرار إداري أم إعلان إفلاس ديموغرافي؟

في 8 كانون الأول 2024، توقفت السلطات السورية الجديدة عن تسجيل الولادات والوفيات، وإذا كان الأمر مفهوماً في الشهر الأول من تولي السلطة الجديدة إدارة سوريا، لكنه أصبح مسألة حرجة بعد ستة أشهر من انتهاء نظام البعث.

الإجراء مستمر ودون أي إعلان رسمي أو توضيح يبرر هذا التجميد، وهو يمر بهدوء شبه تام في وسائل الإعلام الرسمية، ولا يمكن اعتباره مجرد خلل بيروقراطي مؤقت أو قصور فني، وإذا حاولنا النظر إليه في ضوء المنهج التحليلي عبر الربط بين تحولات السكان والتنمية والاستقرار، فإن هذا التوقف يشير إلى أزمة أعمق، تتجاوز مجرد نقص في البيانات، وتمتد إلى بنية الدولة ووظيفتها.

أبعاد التوقف: أرقام بلا وثائق

وفقًا لأحدث التقديرات المعتمدة على بيانات من الأمم المتحدة ومصادر مثل MacroTrends وTheGlobalEconomy.com، فإن سوريا شهدت خلال الفترة من 9 كانون الأول 2024 إلى 20 أيار 2025 ما يقارب:

  • 268,624  ولادة جديدة
  • 55,420  حالة وفاة

هذه الأرقام، رغم كونها تقديرية، لكنها تستند إلى حسابات تستوفي شروط الانضباط الديموغرافي، وتكشف أن مئات آلاف البشر دخلوا أو غادروا الحياة في سوريا خلال هذه المدة دون أن تُوثّق أسماؤهم رسميا، وذلك في بلد يعاني أصلاً من فجوات واسعة في سجلات الأحوال المدنية منذ عام 2011، فإن توقف التسجيل يُحوّل الفجوة إلى هاوية.

ووفق نهج يعتمد على استخدام المعطيات السكانية لتوجيه السياسات العامة، فإن غياب التسجيل الرسمي يُفقد الدولة أداة جوهرية لرسم السياسات: من توزيع الموارد، إلى التخطيط للخدمات الصحية والتعليمية، وحتى تقدير سوق العمل أو تعويضات المتوفين.

سوريا اليوم تُدار عملياً في الظلام الديموغرافي، مع عدم وجود إحصاء رسمي منذ 2024، والاعتماد على تقديرات متضاربة بسبب الحرب والنزوح، وتجميد التسجيل يمثل قطعا نهائيا للخط الرفيع الذي كان يربط الدولة بمجتمعها من خلال الأرقام.

هل نحن أمام دولة ما بعد الإحصاء؟

عند تحليل الظاهرة في سياق أوسع، يمكن القول إن سوريا تتحول إلى نموذج لما يمكن تسميته بـالدولة المفككة سكانيا، حيث تفقد الدولة وظائفها الحيوية في التوثيق والتنظيم السكاني، ويحل محلها واقع غير رسمي، أو فوضوي، أو مسيطر عليه من قوى غير مركزية (مثل الإدارة الذاتية شمال شرق البلاد أو سلطات الأمر الواقع).

في هذا النموذج، يتولى المجتمع المحلي أو العائلة مسؤولية إثبات الوجود القانوني للأفراد، ما يفتح الباب أمام انتهاكات قانونية، وحرمان من الحقوق، وتفاقم ظاهرة “اللاجئين داخل وطنهم”، ممن لا يستطيعون إثبات نسب أو وراثة أو جنسية.

لماذا حدث هذا التوقف؟ السيناريوهات المحتملة

أ. انهيار إداري

مع تراجع كفاءة مؤسسات الدولة، ونقص الكوادر، واهتراء البنية التحتية الرقمية والورقية، يكون التجميد انعكاسا لعجز إداري تراكمي، لكن هذا الاحتمال، رغم واقعيته، لا يفسر التوقيت ولا الصمت الرسمي.

ب. إجراء سياسي مقصود

ثمة احتمال أن يكون القرار جزءا من استراتيجية مركزية لتجميد قاعدة البيانات السكانية بهدف إعادة ضبطها لاحقا، وإذا أخذنا بعين الاعتبار المقاتلين الأجانب وعائلاتهم وإمكانية تجنيسهم، أو ربما استعدادا لإعادة ربط قواعد البيانات كما يُشاع ببرامج خارج سوريا (تركيا)، فإن البعد السياسي يصبح مرجحا.

تضارب في مصادر البيانات

السلطات السورية ربما تواجه أزمة تضارب بين ما هو موجود فعليا على الأرض وما هو موثّق رسميا، بسبب النزوح واللاجئين والعائدين، وربما اختارت، ضمن هذا السيناريو، التوقف مؤقتا لتفادي اعتراف ضمني بفقدان السيطرة الإدارية على بعض المناطق أو تسجيل ولادات “غير مرغوب بها” سياسيا.

التبعات طويلة المدى

إن التغيرات السكانية لا تؤثر فقط في اللحظة الراهنة، بل تُشكل مسار المجتمع لعقود، وتوقف التسجيل لن يؤدي فقط إلى إرباك إحصائي، بل سيفرز أجيالا من السوريين بلا أوراق رسمية، وهو ما يؤدي إلى:

  • غياب عن الأنظمة التعليمية والصحية الرسمية
  • حرمان من الجنسية أو إثباتها
  • تعقيد في التوريث والمعاملات القانونية
  • تضخم السوق السوداء للوثائق المزورة

كما أن الدول والمنظمات الدولية ستواجه تحديات حقيقية في دعم السكان دون قاعدة بيانات موثوقة.

المفارقة: نمو سكاني رغم الفوضى

ما يثير القلق هو أن معدل النمو السكاني في سوريا عام 2023 بلغ 4.86%، وهو من أعلى المعدلات في العالم، ويعزى إلى ارتفاع معدل الولادة (20.53 لكل ألف) مع معدل وفيات منخفض نسبيًا (5.0 لكل ألف)، هذه الزيادة تعني أن هناك ضغطا سكانيا متصاعدا على دولة تفقد أدوات السيطرة والتنظيم.

ومع عدم تسجيل الولادات، فإن هذا النمو يصبح “نموا شبحيا”، لا يمكن تتبعه، ولا قياس أثره، ولا حتى الإقرار به رسميا.

ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد مشكلة بيروقراطية، إنه انهيار للصلة بين الدولة وسكانها، فالتنمية اقتصادية أو اجتماعية لا يمكن أن تنجح بدون قاعدة سكانية واضحة ومحدثة، وإعادة تفعيل التسجيل الحيوي، ولو من خلال شراكة مع منظمات دولية، يجب أن تكون أولوية وطنية.

فبدون إحصاء وبيانات، لا توجد سياسة. وبدون سياسة، لا مستقبل، فهل بات السوري يولد ويموت خارج التاريخ الرسمي لبلده؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *