في خضم ما يمكن تسميته بصيغة “أكبر من مجرد مواجهة إقليمية”، تطور الصراع الإسرائيلي–الإيراني في يونيو 2025 ليصبح اختبارا بنيويا لتوازن القوى الاستراتيجي، ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل على مستوى النظام الدولي.
إن رؤية هذا الصراع من منظور جيوستراتيجي فإن معرفة الموقع الجغرافي، والمكونات السكانية، وطاقة البنية التحتية، والأسلحة الفعلية (missile math)، هي أمور أساسية لبناء سردية تعكس فكرة أن المكان (الجغرافية) هو السياسة.
المكان أولًا: إيران في قلب الخريطة
إيران، بعمقها الجغرافي الممتد من الحدود البعيدة إلى مضيق هرمز، تُشكّل بنية دفاعية طبيعية، والأنظمة المُعدّة للدفاع الجوية كانت متناثرة، ومتداخلة بين السواحل والمناطق الداخلية، والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن إسرائيل ضربت بنجاح مواقع دفاعية في غرب إيران، ما أجبر الحرس الثوري على إعادة تمركزه في وسط البلاد، من أصفهان إلى طهران .
هذا الانتقال لم يكن تكتيكيا فقط، بل استراتيجيا لأن إيران باتت مضطرة لاستخدام صواريخ متوسطة إلى بعيدة المدى، تقل دقتها، وتتطلب تكلفة استهلاك أعلى وسلسلة لوجستية أطول وما جرى اليوم هو “missile math” — حساب المعادلة بين ذخيرة إيران المتاحة وقدرتها على إطالة عمر المواجهة .
رؤية إسرائيل: حرب هجينة عبر الجو والظل
عند الحديث عن “إسرائيل” فهناك ضرورة لرؤية التفاعل بين القدرات الاستخبارية والقوة التقليدية، أي ما يمكن تسميته بـ”الهندسة الجغرافية للصراع”، حيث تبرز تناغمية الموساد والطائرات الإسرائيلية، فالعمليات المنسقة بدأت بطائرات بدون طيار نفذتها الموساد داخل إيران، بهدف تعطيل المنظومات الدفاعية وصواريخ SSM، قبل خروج سربٍ من مئات الطائرات يقصف أهدافا في طهران، أصفهان، و نطنز.
الهندسة الجغرافية هنا عملت لصالح إسرائيل عبر افتتاح قاعدة للتجسس بعمق 1000+ كم، وهذا القرار يبقي العمليات منخفضة الكلفة ويعطل الرد الفوري، ثم تأتي الضربات الجوية المكثفة التي حُوّلت إلى عملية هجينة: مزيج من “الحرب الخفية”، و”الحملات الجوية التقليدية.،(الحرب الخفية) .
الميزان الصاروخي: كم صاروخ تبقى؟
إيران أطلقت ما يقرب من 400 صاروخ خلال البضعة أيام الأولى، و”إسرائيل” صدت أكثر من 90% منها، لكن التكلفة كانت باهظة(ما يقارب (285 مليون دولار في الليلة حسب تقديرات ميزانيات Arrow والصواريخ الاعتراضية.
وتُشير تقارير الجيش “الإسرائيلي إلى تدمير 35–40% من صواريخ إيران وقواعد إطلاقها، لكن في الجغرافيا الإيرانية، الباقي يمكن أن يكون مموّها في ملاجئ تحت الأرض أو في مناطق محمية،
وهنا تتمثل فكرة “أثر الموارد”، فليس مهما العدد الأولي من الصواريخ، لكن القدرة على استدعائها مع الزمن، وإذا استمرت “إسرائيل” في تعقب صواريخ ومخازن إيران، فأي مواجهة جديدة ستستهلك جزءا أكبر من ترسانة إيران، حتى تصبح غير قادرة على الضرب، فالوقت سيكون في صف من يملك نهجا لوجستيا قويا ودعما خارجيا وهنا يظهر دور الولايات المتحدة.
الدور الأمريكي: دعم بلا تدخل مباشر؟
دعم الولايات المتحدة هو إدخال قوى ضخمة في معادلة صغيرة، وهو سلاح ذو حدين، فالرئيس دونالد ترامب، حتى اليوم، “يُثير القلق” حول إمكانية تدخل أمريكي مباشر، رغم التلميحات غير النهائية، والدعوات الأمريكية كانت أكثر مباشرة: “أجلوا طهران فورا”.
لكن قوى سياسية كثيرة في واشنطن تفضل أدلة ملموسة على تدخل أقوى، فالقنابل الأمريكية الثقيلة – bunker-busters – هي وحدها تستطيع أن تدمر مفاعل فورد ونطنز بالكامل، والأضرار ستكون أكبر في دول الجوار، فالمرجح أن تغوص داخليا أو تتصارع سياسيًا أو تضرب اقتصاداتها .
أما بعض الأصوات التي تحذر من أن انسحاب الولايات المتحدة مع انفجار إيران داخليا سيفتح نافذة لروسيا والصين، وهذا السيناريو يدخل في تحليل عن “الفراغ الجيوسياسي” وكيف أنه سرعان ما يُملؤه لاعب قوي إن لم يكن هناك تنظيم قوي.

تحليل القوى: ما الذي يريده كل طرف؟
- إسرائيل: ضربة استراتيجية، وليس حربًا شاملة
نتياهــو اختار لعب ورقة “الأسد الصاعد لسياسة داخلية خطابية، فضرب المواقع النووية واغتيال قادة الحرس الثوري يرسلان رسالة وجودية، ويعيدان إنتاج رواية الوجود الأمني داخليا وخارجيا، لكنها تضحية سياسية، فهو لا يريد حربا طويلة، بل تذكير بأن اسرائيل هي صاحبة القوة والنفوذ إقليميا.
- إيران: رد محسوب، والتهديد بالتصعيد
طهران استجابت لضربات إسرائيل، وأطلقت هجوما صاروخيا واسعا، تحت اسم “الوعد الصادق 3” أوقع دمارا محدودا لكن قويا في إسرائيل، والسياسات الداخلية الإيرانية تظهر رغبة في الحفاظ على خطوط الدفاع، وعدم قبول الهزيمة المباشرة، لكن أيضا تجنب الانجرار إلى حرب إقليمية شاملة.
- الولايات المتحدة: بين تيارين
بين ظروف انتخابية وأوراق ضغط دولي، يتأرجح قرار ترامب بين الدعم المباشر بمتابعة إعادة تعبئة لقدرات صواريخ Arrow أو تحويل إيران إلى أزمة داخلية دون تصعيد مباشر، والتحذيرات الروسية عاجزة الآن عن وقف تمدد التصعيد .
بعد المعارك الأخيرة، تبرز ثلاثة مسارات محتملة لمسار الصراع بين “إسرائيل” وإيران:
أولا: احتمال اتجاه الأمور نحو تهدئة جزئية؛ فإذا استمرت “إسرائيل” في تحمل العبء المالي الباهظ الذي فرضه تصديها لصواريخ إيران، وتم تقليص قدرات الصواريخ الإيرانية تدريجيا، وتدخل الدعم الأميركي بشكل محدود وصولا إلى هدنة مؤقتة، وفي هذا السيناريو، تستمر المفاوضات بوتيرة بطيئة، مع تحكم كل فريق بضغطه العسكري والتفاوضي.
ثانيا: لا يمكن استبعاد توسع عسكري أكبر، وذلك في حال اندفاع الولايات المتحدة لاستخدام قنابل من طراز B-61ما يؤدي إلى استهداف المواقع النووية الإيرانية مثل فوردو ونطنز، ويفتح الباب أمام موجة عنف تشمل حرق مواقع ميدانية، ونشاط قوى في سوريا أو لبنان، وحتى تصعيد نووي استعراضي.
أما الاحتمال الثالث، فهو تحول داخلي في إيران، فإذا استمر الاقتصاد في التدهور، وشهد مخزون الصواريخ تدهورا، فاحتمال انفجار غضب شعبي واردا مع دعم من الخارج، وربما ستكون إسرائيل من يدفع بقوة داخل طهران، لكن السيناريو الأكثر واقعية هو انقلاب داخلي تدريجي بدفع شعبي أكثر من فرض خارجي للجمهورية .
في هذا الإطار، تبدو خيارات إيران شحيحة: إمّا استئناف تفاوض تحت الضغط، أو اختيار معركة أوسع تتجاوز مجرد رَدّ صاروخي، أو انتظار انفجار داخلي يعيد تشكيل النظام.

نهاية “ليونة الجغرافيا”
رغم أن الجغرافيا بطبيعتها مرنة وقابلة للتكيف، إلا أن العوامل المكانية والموارد تفرض حدودا صارمة لا يمكن تجاوزها بسهولة، فـ”إسرائيل” تمكنت من التوغل بعمق استراتيجي داخل الأراضي الإيرانية، مستندة إلى تفوق استخباراتي وهندسة ميدانية دقيقة، وهو ما منحها أفضلية مؤقتة في التقييم العسكري، غير أن تعقيد البنية السياسية الإيرانية، وتشعب منظومتها اللوجستية، وامتداد نفوذها الإقليمي، يجعل من طهران خصما عصيا على الانهيار السريع أو الحسم الخاطف.
أما المتغير الأساسي القادم، فهو الوقت.
نحن أمام حرب هجينة بكل ما تعنيه الكلمة، فهي مزيج معقّد من عمليات استخباراتية دقيقة، وضربات جوية مركزة، ومنظومات دفاع أميركية متقدمة، يتفاعل داخل عمق الأراضي الإيرانية، و”إسرائيل” قادرة على تحييد أهداف محددة، وربما تدمير بعض الصواريخ، لكنها عاجزة عن قلب موازين الحكم في طهران بمفردها.
في المقابل، لا تملك إيران فرصة حقيقية للانتصار العسكري، لكنها تجيد إطالة أمد المعركة عبر شبكاتها الإقليمية وأدواتها غير التقليدية، أما الولايات المتحدة، فهي الآن أمام لحظة حاسمة، فإما أن تتدخل لتوجيه مسار الصراع، أو تتركه ينزلق نحو سيناريو مستقبلي فوضوي، يشبه عوالم مظلمة حيث تختلط القوة بالتكنولوجيا وسط فراغ استراتيجي خطير.
في هذا السيناريو، ما بين “الأسد الصاعد” و”الوعد الصادق3″، يخبرنا المكان؛ العمق والتضاريس والصواريخ لا تكذب، هي تؤلف رواية صراع لا يُحسم بين عشية وضحاها.
كل مين يقف بوجه اسرائيل على اسرائيل ان تعمل على انقراضه والقوي الذي يستطيع ان يقف ويتحمل بطشها وقتلها ووحشيتها وعلى الله ان يقف مع إيران لان عليه ان يعاقب هذا الشر المطلق على الارضي رحمة بعباده وملكوته على الارض