سوريا الدولة السائلة: بين الانهيار والبحث عن الصلابة

بعد ستة أشهر من دخول “قوات تحرير الشام” إلى دمشق، أصبح واضحا أن دخولها لم يكن “قوة تحرير”، بل بداية انهيار مفهوم الدولة كما عرفه السوريون لعقود، فالمشهد ليس احتفاليا ولا حاسما، بل انعكاسا لحالة انزلاق سياسي واجتماعي واقتصادي نحو ما يسميه زيغمونت باومان بـ”الدولة السائلة”، حيث تنهار الصيغ المستقرة، وتتعدد مراكز القوة، وتغيب المرجعيات، وتتآكل السيادة من الداخل قبل الخارج.

منذ لحظة دخولها العاصمة، لم تعد دمشق مركز الحكم بل مجرد نقطة نزاع جديدة تُضاف إلى خارطة متغيرة باستمرار، فالسلطة باتت مبعثرة، والتحالفات تتبدل بشكل يومي، والفوضى السياسية تكتسب طابعا مؤسسيا، وسوريا اليوم ليست دولة تنهض بل كيان هلامي يتنازعه الجميع، بلا مركز ثابت، وبلا مشروع جامع أو أفق واضح.

سيادة مفرغة ومراكز سلطة متنافرة

الدولة السائلة في سوريا ليست مجازا بل واقعا سياسيا واجتماعيا، فحتى بعد إعلان تشكيل حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع في آذار 2025، تبقى هذه الحكومة مربوطة بالرمزية أكثر من الفعل، والقرار الحقيقي لا يُتخذ في دمشق وحدها، بل في القامشلي حيث القوات الكردية (قسد)، وفي إدلب حيث تتحصن بعض الفصائل المسلحة، وفي عواصم الجوار القريب مثل أنقرة، والرياض أو حتى “تل أبيب”.

تحدث باومان عن مجتمعات فقدت مركز الثقل، وهو ما تعيشه سوريا اليوم؛ لا وجود لمركز قرار واحد، بل شبكة من اللاعبين، كل يدير ما تحت يده، ويُراهن على المستقبل، لا على الدولة.

القوات الكردية، التي وقّعت اتفاقا لدمجها في مؤسسات الدولة الجديدة، لم تُسلّم رايتها بعد، فالاتفاق بقي على الورق، والتنفيذ متعثر أمام انعدام الثقة، وتضارب الأجندات، أما الفصائل المسلحة التي خرج بعضها من العباءة الجهادية، فلا تزال تحتفظ بالسلاح والنفوذ، وتشارك في المشهد الانتقالي كقوة أمر واقع، وهذا الانقسام لا يسمح بتكوين جيش وطني موحد ولا بسيادة حقيقية.

مؤسسات بلا عمق… دولة بلا أدوات

إذا كانت الدولة هي مؤسسات، فإن سوريا ليست دولة بعد، الوزارات تعمل بالحد الأدنى، والبيروقراطية غير فعالة، والكوادر التي تُدير أجهزة الدولة تفتقر إلى التدريب والدافع، فلا ثقة ولا خبرة ولا استقرار.

البنية التحتية التي دمرتها سنوات الحرب زادت الطين بلة فالمدارس المهدمة، والمشافي الخارجة عن الخدمة، والشبكات الكهربائية المقطعة، كلها تجعل أي محاولة لإعادة بناء المؤسسات شبيهة بترميم منزل وسط زلزال لم ينتهِ.

هنا تظهر الدولة السائلة ككيان لا يمكنه الوقوف لأن الأرض التي سيتم البناء عليها، حيث الفوضى المؤسسية تولد اللامسؤولية، واللامركزية غير المنظمة تخلق فراغا تستغله الميليشيات والجهات الخارجية.

عدالة انتقالية على أرض منقوصة

في أيار 2025، تشكلت “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، وهي خطوة مهمة في المبدأ، لكن الواقع السوري لا يمنحها الشروط الكاملة للنجاح، خصوصا أن التصفيات سبقت اللجنة، فكيف يتم تحقيق العدالة في بلد لم يتفق بعد على سردية موحدة للماضي؟

العدالة هنا تتحول إلى معادلة سياسية أكثر منها قانونية، تُوزن فيها التنازلات لا المبادئ، وهذا أخطر ما في الدولة السائلة: أنها تُمزج فيها القيم بالأولويات المرحلية، وتُؤجل العدالة إلى أجلٍ غير مسمى.

في المقابل الاقتصاد السوري أقرب إلى جسد بلا قلب، وعملة بقيمة صرف زائفة، وبطالة تتجاوز 50%، ومعدلات فقر كارثية، فلا إنتاج مع انعدام الاستثمار، ولا خطة إنقاذ واقعية، فالدولة الجديدة تعتمد بالكامل على المساعدات الدولية، التي وإن ضخت بعض الحياة، إلا أنها لا تُعالج السبب بل تؤجل الوفاة.

الاقتصاد في الدولة السائلة لا يُبنى بل يُدار باليوميات، حيث الرواتب تُدفع من منح، وأسواق تتحكم بها شبكات التهريب، ويتجمد القطاع خاص وتنعدم خطط التنمية وذلك بانتظار الفرج.

هوية ممزقة.. مواطن غريب في بلده

ما يزيد الطين بلة أن المواطن السوري لا يرى في دولته مرآة له، لم تُعد الدولة إطارا جامعا للهوية، بل تحولت إلى جهاز رقابي غريب، أو إلى شركة خدمات فاشلة، وفي الدولة السائلة، يتحول المواطن إلى زبون، يحاول أن ينجو وحده، يبحث عن حماية من فصيل،  من طائفة، وعن فرصة في منظمة، لا عن انتماء.

لم تعد “سوريا” كما يعرفها الجيل السابق، فالهوية تفتتت، وتحولت إلى طوائف، أعراق، مناطق، وحتى فصائل، وكل طرف يعيد تعريف “الوطن” من زاويته، ويكتب سرديته الخاصة عن الثورة والحرب والانهيار.

سوريا تقف على الحافة، ويمكن لهذه المرحلة أن تكون انتقالا نحو بناء دولة قوية، أو بداية لانهيار نهائي، ولكن لا شيء مضمون فالمشهد الحالي مليء بالتناقضات، والرهانات غير واضحة.

لكي تتحول الدولة السائلة إلى دولة صلبة، تحتاج سوريا إلى ما هو أكثر من مجرد حكومة انتقالية؛ تحتاج إلى مشروع وطني جامع، ومؤسسات تبنى من القاعدة لا من فوق، وإلى مصالحة لا تعتمد فقط على المفاوضات، بل على كشف الحقيقة والاعتراف بها.

الأمر ليس فقط في يد السوريين، بل في يد العالم أيضا، فاستمرار التدخلات الخارجية، سواء باسم الحماية أو النفوذ، لن يسمح بقيام دولة حقيقية. وأي حل لا يُعيد السيادة إلى الداخل هو مجرد وهم.

وصف باومان “الحداثة السائلة” بأنها زمن هش، تتفكك فيه العلاقات والأنظمة، وتتغير الهويات بوتيرة أسرع من قدرتنا على فهمها، وسوريا تعيش هذا الزمن بكل تفاصيله، والخروج من هذه السيولة يتطلب أكثر من إرادة سياسية، فهناك ضرورة لإعادة تعريف الدولة، ليس كمركز سلطة فقط، بل كعقد اجتماعي جديد، يعطي لكل سوري مكانا وموقعاً وصوتاً، وسوريا يمكن أن تنهض، لكن فقط إذا اختارت أن تكون دولة للجميع، لا ساحة للجميع.

1 فكرة عن “سوريا الدولة السائلة: بين الانهيار والبحث عن الصلابة”

  1. فعلاً نشعر بالغربة بوطننا للأسف غربة قاسية متعبة مرهقة صار الوقت أن يمنحها الغرب ودول الصراع عليها الاستقرار والأمان والسيادة والوحدة على كل أراضيها سورية عانت من سياسات حمقاء مجرمة مدمرة لوقت طويل ويجب أن تتوقف تلك السياسات مهما كان الثمن لتنهض سورية من جديد لأجل الأجيال والمستقبل الذي يهرب من بين يديها كدولة حضارية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *