سوريا في ميزان القوى الجديد: قراءة في الاستراتيجية الأمريكية بعد الأسد

وسط عاصفة جيوسياسية تعيد رسم الشرق الأوسط، تشهد سوريا تحوّلا غير مسبوق منذ الاستقلال، فالبلاد تقف عند مفترق طرق بين إعادة التشكل الداخلي واصطفاف استراتيجي خارجي جديد.

الشهادتان المقدمتان أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي من قبل الدكتور جون ألترمان وآنا بورشفسكايا ترسمان ملامح ما يمكن وصفه باستراتيجية أمريكية مرنة، براغماتية، ومشروطة في آنٍ معا، لكن هل تحمل هذه الشهادات تصورا لمرحلة ما بعد الأسد؟ أم هي انعكاس للضياع الأميركي في لحظة حاسمة؟

أولًا: بين واقعية واشنطن وتعقيدات الداخل السوري

في كلمته أمام الكونغرس، يعترف جون ألترمان بحقيقة بسيطة لكنها حاسمة: “نحن لاعبون صغار نسبيا في نظر السوريين”، وتبدو هذه الجملة المفتاح لتفكيك الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؛ فالولايات المتحدة لم تعد تنظر إلى سوريا كمجال لإسقاط الأنظمة أو فرض الديمقراطية، بل كمسرح لإدارة التوازنات وتخفيف الأضرار.

هناك إدراك بأن أي تدخل غير محسوب سيؤدي إلى فوضى أشد من سيطرة الميليشيات المتطرفة، خصوصا في ظل الصراعات القبلية والطائفية والمليشياوية التي تشكل بنية السلطة السورية الحالية، فالاستراتيجية الأمريكية، كما يلمّح ألترمان، تتأسس على ثلاثية واضحة: الانخراط المشروط، وتنسيق الحلفاء، وضمان الحضور دون الهيمنة، فلم تعد واشنطن تطمح لإعادة تشكيل سوريا وفق نموذج ليبرالي، بل تهدف لضبط إيقاع التغيير بما لا يسمح للقوى المعادية — إيران وروسيا وتنظيم الدولة — بالاستفادة من الفراغ.

ثانيًا: روسيا بعد الأسد… استقالة تكتيكية أم كمين استراتيجي؟

تشير شهادة بورشفسكايا بوضوح إلى أن سقوط الأسد لا يعني انسحاب موسكو، بل العكس تماما، فروسيا، وفق منظورها، لا ترى الأسد كغاية بل كأداة، حيث نجحت موسكو ولو جزئيا في تسويق نفسها كـ”حامية للأقليات”، وكمزوّد أمني يمكن التعويل عليه، ومع أن تداعيات الحرب الأوكرانية حدّت من نفوذ روسيا، فإنها لم تلغِ حضورها الجيوسياسي في سوريا، لا سيما في الساحل السوري (طرطوس وحميميم) وملف الطاقة.

الخطر الحقيقي الذي تحذر منه بورشفسكايا هو تحول روسيا إلى فاعل خفي يحرّك المشهد السوري دون أن يظهر على السطح، ويعيد ترتيب التحالفات على نحو يسمح له بالتهرب من العقوبات، وتوجيه رسائل ضمنية للناتو من الجبهة الجنوبية.

ثالثًا: إسرائيل وتركيا… الصراع القادم في سوريا الجديدة

إذا كان التحليل الأمريكي التقليدي يركز دائما على إيران كعدو أول في سوريا، فإن ألترمان يلفت الانتباه إلى “الصدام غير المُعلن” بين قوتين غير عربيتين؛ تركيا وإسرائيل اللتان تسعيان لترسيخ وجود دائم عبر وكلاء محليين، فتركيا من خلال “هيئة تحرير الشام” والمجالس المحلية في الشمال، وإسرائيل عبر إنشاء مناطق عازلة في الجولان والمناطق الدرزية، وهذا التنافس مرشح للتصعيد، لا سيما مع احتمال تقاطع مصالح أنقرة وتل أبيب في السيطرة على المعارضة السورية وتحديد مستقبل النظام الأمني السوري الجديد.

السؤال المركزي هنا: هل تقف الولايات المتحدة على الحياد؟ أم تسعى لإعادة هندسة التحالفات بما يوازن بين المصالح الإسرائيلية والتركية، دون الانزلاق في حرب بالوكالة؟

رابعا: الاقتصاد السوري الجديد… ورقة الضغط البديلة

فيما تُجمع الشهادتان على أن سوريا تواجه انهيارا اقتصاديا مدمرا، يطرح ألترمان مقاربة لافتة، فالدعم الدولي يجب أن يكون مشروطًا بالأداء السياسي، فالولايات المتحدة وبدعم أوروبي يمكن أن تلعب دورا حاسما في توجيه الاقتصاد السوري الناشئ من خلال مشروعات استثمارية مدروسة، وهنا تصبح المساعدات الدولية أداة سياسية بامتياز، فمن يقدم الخبز يمكنه فرض قواعد اللعبة، لكن النجاح مشروط بإبقاء التنسيق عابرا للوزارات، ومتماسكا بين الأجهزة الأمريكية المختلفة؛ من وزارة الخزانة إلى الاستخبارات، وهو ما شدد عليه ألترمان في شهادته.

خامسا: مستقبل النظام السوري… من هو أحمد الشرع؟

تتوقف كل من الشهادتين عند شخصية الرئيس الانتقالي الجديد، أحمد الشرع، بشيء من الريبة، فالرجل، رغم صعوده من بين ركام الحرب، يحمل سجلا حافلا من العلاقات الغامضة مع الجهاديين من الزرقاوي إلى البغدادي، تقول الشهادة: “لا نعرف إن كان يشاطرهم الأيديولوجيا أم أنه تلاعب بهم ببراعة”.

هذه الجملة تختصر المعضلة الأمريكية: هل نُراهن على براغماتية الشرع؟ أم نعتبره مجرد نسخة جديدة من ديكتاتور مموّه؟ الاستراتيجية الأمريكية تميل للخيار الأول، لكنها لا تستبعد السيناريو الثاني، وتُفضّل دعم الشرع بحذر عبر اختبار متواصل وليس تفويض مطلق.

سادسا: نحو استراتيجية أمريكية جديدة في سوريا

انطلاقًا من التحليلات أعلاه، يمكن استخلاص ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة:

  1. الانخراط الذكي: دعم مشروط لحكومة ما بعد الأسد، يربط تخفيف العقوبات بإنجازات واضحة في مكافحة الفساد، وبناء المؤسسات، واحترام التعددية.
  2. الردع المتوازن لروسيا: ليس عبر المواجهة العسكرية، بل من خلال تفكيك أدوات نفوذ موسكو الاقتصادية والدبلوماسية، وملء الفراغ بالبدائل الأوروبية والتركية والقطرية.
  3. حماية الاستقرار الإقليمي: إدارة دقيقة للعلاقة مع تركيا وإسرائيل، بما يمنع صراعهما من التحول إلى حرب بالوكالة.
  4. تركيز على الأدوات الاقتصادية: من دعم الأمن الغذائي السوري (عبر القمح الأوكراني)، إلى تمكين الفئات الضعيفة، واستخدام الاقتصاد كسلاح سياسي ذكي.
  5. تنسيق داخلي أمريكي: توحيد المواقف بين البيت الأبيض والكونغرس والوزارات المعنية، لمنع التناقضات التي استفادت منها القوى الإقليمية سابقا.

في لحظة تبدو فيها واشنطن مرهقة، وسوريا ممزقة، والمنطقة مترنحة، تبرز الحاجة لاستراتيجية أمريكية لا تقوم على الأوهام، بل على الفهم العميق للتاريخ، والقدرة على توجيه التغيير دون التورط في صناعته بالكامل، فالتفكير الجيوسياسي الأمريكي وفق كافة المؤشرات يقوم على: الاعتراف بالواقع، التعامل مع الممكن وتوجيه الدفة نحو المستقبل بثبات حذر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *