سوريا.. قراءة ديموغرافية بعد انهيار الدولة

في أعقاب الانهيار الذي أعقب سقوط الإدارة السورية في 8 كانون الأول 2024، بات غياب التسجيل الرسمي في سوريا للمواليد والوفيات واحداً من أكثر المؤشرات دلالة على فقدان الدولة لوظيفتها الأساسية.

إن التوثيق التقديري اليومي للسكان ضرورة حيوية، لا مجرد أداة إحصائية، بل وسيلة لرصد النبض الديموغرافي السوري واستشراف آثاره السياسية والاقتصادية، والمقاربة الديموغرافية المنهجية ترى أن السكان ليسوا مجرد أرقام بل وكلاء فعليين للتغيير والتحول في بنى الدولة.

التقدير اليومي كآلية مقاومة لفقدان الدولة

وفق تقديرات مستقرة مستندة إلى بيانات 2023-2024، فإن عدد المواليد اليومي في سوريا يُقدّر بحوالي 1,205 حالة ولادة، في حين تسجّل البلاد يومياً نحو 287 حالة وفاة، وبغياب البنية المدنية للدولة، يصبح هذا التقدير المعتمد على الحسابات النسبية من معدل النمو السنوي، والآلية الوحيدة الممكنة لسد الفراغ الإحصائي الناتج عن توقف السجلات الرسمية.

التقدير اليومي لا يملأ فقط فراغاً إدارياً، بل يشكّل فعلاً مقاوماً للانهيار، فمن خلال احتساب النمو السكاني الصافي (918 شخصاً يومياً)، نحصل على صورة تراكمية للنمو الديموغرافي الذي يحدث دون اعتراف مؤسساتي، ما يطرح سؤالاً جوهرياً: لمن تعود السيادة في إنتاج الهوية القانونية للمواطن السوري؟

أثر توقف التسجيل: غياب الاعتراف والحق القانوني

توقف تسجيل الولادات والوفيات له تداعيات تتجاوز غياب الإحصاء، ففي ظل غياب الشهادات المدنية، يُحرم آلاف الأطفال من الهوية القانونية، ما يؤدي إلى انعدام جنسية فعلية، ويعقّد من فرص حصولهم على التعليم، الرعاية الصحية، والميراث، فنحن أمام جيل يولد في الفراغ القانوني، ويُدفع إلى الهامش السياسي والاجتماعي.

الأمر لا يتوقف عند الولادة، فالوفيات غير المسجلة تُعيق عمليات الإرث، وتسوية النزاعات العقارية، وتمس جوهر العلاقات الاجتماعية، حيث تظل الأسر معلّقة قانونياً بغياب إثباتات الوفاة.

البعد الاقتصادي: عبء غير مرئي ونمو سكاني غير موجه

في اقتصاد هش ومتفتت كالاقتصاد السوري، تؤدي الولادات غير المسجلة إلى عبء غير مرئي على الخدمات العامة، فالدولة، حتى لو عادت للعمل، ستجد نفسها أمام سكان غير محسوبين، ما يُربك تخطيطها للمدارس، المشافي، وشبكات الدعم الاجتماعي. كما أن غياب البيانات الدقيقة يعرقل أي محاولة دولية لدعم جهود التنمية.

من جهة أخرى، يُساهم غياب التسجيل في تعزيز اقتصاد الظل، حيث يُدفع المواطن لتزوير وثائق أو اللجوء إلى قنوات غير رسمية لإثبات وجوده القانوني، ويُعزز من حالة اللاشرعية المؤسسية.

أثر ديموغرافي طويل الأمد: تشوه بنية الهرم السكاني

إن استمرار النمو السكاني الصافي بمعدل 918 شخصاً يومياً يُنتج تراكماً غير موثق رسمياً يزيد عن 228,000 شخص خلال 6 أشهر فقط، وهذا النمو غير المراقب يُحدث خللا في الهرم السكاني، خاصة إذا ما ترافقت هذه الفترة مع موجات نزوح داخلية أو خارجية.

في هذه الحالة، ستكون النتائج شديدة التفاوت بين المناطق: بعض المحافظات تشهد تضخماً سكانياً غير موجه، في حين تشهد أخرى انكماشاً غير مفهوم بسبب غياب البيانات الدقيقة.

الرسم البياني السابق يُظهر أثر النمو السكاني غير الموثق رسمياً في سوريا خلال فترة معينة، ويعكس ثلاثة مؤشرات ديموغرافية رئيسية:

  • أولاً النمو السكاني الصافي بمعدل 918 شخصاً يومياً، ويشير إلى الزيادة المستمرة في عدد السكان رغم غياب البيانات الرسمية.
  • ثانياً التراكم السكاني الذي يقدر بحوالي 228,000 شخص خلال ستة أشهر، و يوضح الحجم الكبير للنمو السكاني غير المراقب في فترة زمنية قصيرة.
  • ثالثاً يظهر الرسم التفاوت في النتائج بين المناطق، حيث تشير النقطة الأخيرة إلى الغياب التام للتفاوت الرقمي في ظل غياب البيانات الدقيقة.

هذا النمو السكاني غير الموجه قد يؤدي إلى تشوه في بنية الهرم السكاني، مما يخلق تحديات في التخطيط للموارد والخدمات الاجتماعية، ويزيد من الأعباء في المناطق التي تعاني من تضخم سكاني أو انكماش غير مبرر بسبب غياب الإحصاءات الدقيقة.

البعد السياسي: شرعية الدولة في مهب الريح

السكان في النهاية أداة سياسية، وغياب التوثيق يحوّل هؤلاء إلى قوة صامتة غير ممثلة، فكل فرد غير مسجل يُمثّل خسارة سياسية في معادلة التمثيل النيابي، والتخطيط الجغرافي، وإعادة الإعمار، والدولة التي لا تسجل شعبها، لا تحكمه فعلياً، فاستمرار هذه الحالة يُعتبر تهديداً مباشراً لشرعية أي سلطة تدّعي الحكم باسم الشعب.

إن التقدير اليومي للمواليد والوفيات لا يُعتبر مجرد وسيلة إحصائية، بل فعل سياسي ومقاومة معرفية لطمس الشعب السوري ديموغرافياً، فالسكان ليسوا مجرد نتائج بل أسباب، ومتابعتهم ليست رفاهية إدارية بل شرطٌ لبقاء الكيان السياسي والاقتصادي، ومع استمرار غياب التسجيل الرسمي، فإن التقدير التراكمي اليومي قد يصبح الوثيقة الوحيدة التي تحفظ للسوريين حقّهم في الوجود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *