بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول 2024، دخلت البلاد مرحلة غير مسبوقة من الفراغ السيادي، ما فتح الباب واسعا أمام نماذج حكم موازية تبحث عن شرعية بديلة، واستقرار ميداني وسط الفوضى السياسية.
من بين هذه النماذج، يبرز ما صاغه عبد الرحمن عطوان، مستشار الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، بوصفها نموذجا كاملا لإعادة بناء السلطة على أسس جهادية مستندة إلى الشريعة الإسلامية.
يمثل هذا النموذج أكثر من مجرد تنظير عقائدي؛ إنها خطة مفصلة لبنية سلطوية بديلة تتوزع على منظومات وظيفية تتكامل فيما يُعرف بـ”الجهاد المؤثر”، وتسعى لإعادة إنتاج الدولة من منظور عقدي-مسلح، لا مدني – وطني.

يُظهر الرسم الراداري السابق مقارنة شاملة بين الدولة السورية التقليدية ومشروع عبد الرحمن عطوان، من خلال سبعة محاور بنيوية تشمل المرجعية، مركز القرار، المؤسسة العسكرية، الوزارات، السياسة، الأمن، والاقتصاد، فهناك تمثيل كل محور كشعاع ممتد من مركز الدائرة، فيما تُرسم القيم على شكل مضلع يغلف المساحات التي يسيطر عليها كل نموذج.
في حالة الدولة السورية، نلاحظ اتساقا واضحاً في معظم المحاور، خاصة في القوة العسكرية والأمنية ومركزية القرار، مما يعكس طابعها المؤسسي المركزي، في المقابل، يظهر مشروع عطوان أكثر تمركزا في محور المرجعية (الشريعة الإسلامية) والسياسة الدعوية، لكنه أقل تماسكا في المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ما يشير إلى اعتماده على نموذج غير مؤسسي يعتمد على الجماعة والتمكين الميداني، يوضح هذا الرسم الفجوة البنيوية بين دولة قومية ذات بنية مؤسسية متماسكة، وبين مشروع بديل يقوم على منطق الجماعة العقائدية، ما يثير تساؤلات جدية حول قابلية الأخير لتأسيس نظام حكم مستدام ومقبول شعبياً.
مرجعية فوق دستورية: الشريعة كإطار كلي
بعد سقوط النظام السوري وانهيار البنية الدستورية التقليدية التي كانت تستند إليها الدولة، يقدّم نموذج عبد الرحمن عطوان تصورا بديلا للمرجعية العليا في الحكم، يتمثل في الشريعة الإسلامية لا باعتبارها مجرد مصدر تشريعي، بل كإطار ناظم شامل يحتل موقعا فوق دستوري، فالمشروع الذي تقترحه الخريطة لا يُعد مشروعا شرعيا أو مقبولا داخل هذه المنظومة إلا إذا استوفى ثلاثة شروط متداخلة: أن يكون منضبطا بأحكام الشريعة، محققا لمصالح الجهاد، ومراعياً لمصالح المسلمين كجماعة عقائدية لا ككيان سياسي وطني.
هذا التأسيس يغيّر بالكامل طبيعة العقد السياسي الذي يُبنى عليه الكيان الحاكم، حيث يتم استبدال فكرة السيادة الشعبية أو الإرادة الجماعية بمفهوم “التمكين”، أي الشرعية المستمدة من القوة الميدانية للجماعة المؤمنة ومدى التزامها بالعقيدة، وبدلا من أن يكون الدستور هو الأداة التي تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تتحول النصوص الفقهية إلى مراجع عليا تحدد معايير القبول أو الرفض لأي قرار سياسي أو عسكري أو إداري.
في هذا السياق، تصبح الشريعة ليس فقط إطارا مرجعيا، بل أداة ضبط ومساءلة، حيث يُحاكم العمل العسكري أو السياسي وفق مقاصد الفقه وليس وفق القوانين المدنية أو المبادئ الدستورية المتعارف عليها، كما يتم نزع الطابع الوطني عن مؤسسات الدولة لتُستبدل بمعايير عقدية تنتمي إلى الجماعة لا إلى الشعب، ما يفتح الباب أمام نظام شمولي جديد يتأسس لا على القانون، بل على التفسير الفقهي وسلطة التأويل.
إن هذا الانتقال من شرعية الدولة إلى شرعية الجماعة يُعيد تعريف الدولة ذاتها من دولة مدنية ذات طابع قومي أو تمثيلي، إلى سلطة شرعية – فوق سياسية – تتعامل مع المجتمع بوصفه أمة مؤمنة لا بوصفه شعبا مواطنا، ومن هنا، فإن مشروع عطوان لا يسعى إلى إصلاح ما تبقى من الدولة السورية، بل إلى إعادة بنائها من جذورها، على أساس عقدي-نضالي يستبدل أدوات السياسة بأدوات التمكين، والبرلمان بهيئة الشورى، والدستور بالنص، والمواطنة بالولاء الإيماني.
القرار كقلب نابض للنظام
في تصور عبد الرحمن عطوان، لا يُنظر إلى القرار بوصفه وظيفة إدارية أو آلية تنفيذية، بل يُعامل كعنصر مركزي عضوي ينبض داخل بنية المشروع بكاملها، ويعبّر عن توازن القوى بين المكونات الشرعية والعسكرية والاجتماعية، يتشكل هذا القرار من أربعة أعمدة أساسية هي: الشعب، الأرض، الشوكة (القدرة التي تُمكِّن الجماعة من فرض سلطتها على الأرض، وتطبيق مشروعها السياسي أو الشرعي)، والمقومات المادية والإيمانية، وهذه المقومات لا تُفهم بمفهومها التقليدي كما في الدولة الحديثة، بل يُعاد تأويلها ضمن إطار عقائدي/نضالي.
فـ”الشعب” في هذا السياق ليس جمهورا انتخابيا حرا يشارك في العملية السياسية، بل يُفهم كجماعة مؤمنة يُناط بها واجب السمع والطاعة، ويُقيّم مدى صلاحيتها من خلال التزامها بالعقيدة ودورها في التمكين، أما “الأرض”، فهي ليست إقليما محكوما بقانون سيادي، بل رقعة قابلة للفتح أو التمكين، تُكتسب مشروعيتها من قدرتها على احتضان الشريعة وتطبيقها.
“الشوكة”، بدورها، تمثل القوة الصلبة – أي الجهاز العسكري والأمني القادر على فرض النظام والدفاع عنه – وهي تُعد شرطا لازماً لاكتساب الشرعية لا مجرد أداة تنفيذ، وأخيرا، “المقومات المادية والإيمانية” تجمع بين التمويل والموارد والجانب العقدي، بحيث لا تنفصل إدارة الموارد عن التوجه العقائدي بل تخضع له بالكامل.
بعد سقوط النظام السوري وانهيار مركز القرار التقليدي، لم تسعَ الخريطة إلى استبداله بمركز مدني أو تمثيلي كما في الأنظمة الانتقالية الكلاسيكية، بل اختارت إعادة إنتاج القرار كفعل جماعي منبثق عن الجماعة الجهادية، يتوزع بين هيئات شورى، وقيادات ميدانية، وأجهزة شرعية.
هذا النوع من المركزية المتعددة الأطراف يُحوّل القرار من كونه فعلا سياديا صادرا عن مؤسسات، إلى كونه نتاجا تفاعليا بين التمكين الميداني، والتزكية الشرعية، والتوافق ضمن الجماعة، ما يعكس نموذجا بديلا عن السيادة القانونية المعروفة، فهو قرار لا ينبثق من القانون بل من “الهيبة الشرعية”، ولا يُنفّذ باسم الشعب بل باسم الأمة المؤمنة، ويتحول القرار في مشروع عطوان إلى مرآة دقيقة لبنية الحكم ذاتها: متشعبة، لا مركزية سياسيا، لكنها مركزية في المرجعية، محكومة بتوازن بين القوة والعقيدة، حيث تكون شرعية القرار رهينة بمدى اقترابه من النص، وقابليته للتنفيذ عبر الشوكة.
تفكيك بنية الدولة إلى منظومات جهادية
فيما يلي جدول يقارن بين البنية التقليدية للدولة السورية قبل السقوط، وبين النموذج البديل الذي يقدمه مشروع عطوان:
البند | الدولة السورية | مشروع عطوان |
المرجعية | الدستور والقانون الوضعي | الشريعة الإسلامية |
مركز القرار | رئاسة الجمهورية والبرلمان | هيئات شورى وقيادة جماعة جهادية |
المؤسسة العسكرية | جيش وطني مركزي | جهاز جهادي ميداني لامركزي |
الوزارات | وزارات مدنية إدارية | وزارات شرعية/خدمية تحت إشراف الجماعة |
السياسة | حزب البعث، هيئات تمثيلية | إعلام دعوي وتحريض تعبوي |
الأمن | أجهزة استخباراتية مركزية | حواجز ومخافر وجهاز أمني ميداني |
الاقتصاد | مؤسسات رسمية وتمويل خارجي | موارد محلية وتكافل داخل الجماعة |
تُعيد الخريطة بناء السلطة عبر ست منظومات رئيسية:
- العمل الشرعي: الدعوة، الحسبة، والعمل العسكري المشروع.
- العمل السياسي: الإعلام والتوجيه العقدي.
- العمل العسكري: الهجوم، الإعداد، والدفاع، عبر معسكرات وأنفاق وتجهيزات متخصصة.
- العمل الأمني: نقاط تفتيش، مخافر، ومراقبة ميدانية.
- العمل الاقتصادي: إدارة الموارد والتكافل.
- الوزارات: صحة، تعليم، عدل، داخلية، أوقاف… كبدائل وظيفية للمؤسسات السابقة.
بهذا الشكل، لا يتم ترميم مؤسسات الدولة بل يتم استبدالها بالكامل، من خلال بنية أفقية تستند إلى سلطة الجماعة المؤمنة.
من الثورة إلى الفراغ: 2011 – 2024
يُقسم النموذج السابق المسار الزمني إلى مرحلتين:
- 2011 – 2019: الثورة والجهاد الشامي، ثم الانكفاء بفعل المصالحات والاختراقات.
- 2019 – 2024: مرحلة الكمون الاستراتيجي في انتظار لحظة الانهيار.
مع انهيار النظام في 2024، وجد مشروع عطوان لحظة نادرة للظهور كبديل سلطوي مشروع، مستفيدا من غياب مركز القرار، وتفكك البنى المدنية والأمنية، وهو عمليا قام بتطبيق نموذج سابق، ففي إدلب، شهدنا منذ سنوات نموذجا خاصا:
- هيئة تحرير الشام مثّلت “الشوكة”.
- حكومة الإنقاذ أدت أدوار الوزارات.
- المحكمة الشرعية، والجهاز الأمني، والإعلام العقائدي، جسدوا البنية المتكاملة للمشروع.
أما في مناطق شرق الفرات بعد انسحاب النظام، ظهرت محاولات تطعيم محلية للمشروع، لكن دون اكتمال المنظومة بسبب الصدام مع قوى أخرى (قسد، العشائر، التدخل الأمريكي).
عوائق التوسع إلى دمشق وما تبقى من الدولة
الجدول التالي يوضح أبرز نقاط الضعف البنيوية التي تواجه هذا المشروع عند محاولته التحول إلى سلطة حاكمة مركزية:
التحدي | التفسير |
فقدان التوافق المجتمعي | نسبة كبيرة من السوريين ترفض الحكم الديني المتشدد |
الشرعية الدولية | تصنيف المشروع ضمن قوائم الإرهاب يصعّب الاعتراف الخارجي |
التنوع الإثني والديني | تعدد المكونات في سوريا يمنع فرض نموذج إقصائي |
صراعات داخل التيار الإسلامي | التنافس بين الفصائل والتيارات الدينية يعيق وحدة القرار |
ضعف البنية المؤسساتية | لا توجد كوادر مدنية كافية لتشغيل منظومة بديلة متماسكة |
رغم الفراغ، يواجه المشروع تحديات حادة في فرض نفسه على مجمل الجغرافيا السورية:
- فقدان التوافق المجتمعي: فنسبة كبيرة من السوريين ترفض الحكم الديني المتشدد.
- الشرعية الدولية: المجتمع الدولي لن يعترف بمنظومة تستند إلى الجهاد المسلح.
- التعدد الإثني والديني: وجود الأقليات (العلويين، المسيحيين، الدروز) يعقد فرض نظام إقصائي.
- احتمالية الصدام الداخلي: حتى داخل المعسكر الإسلامي، فهناك خلافات بين التيارات السلفية، الإخوانية، والمستقلة.

الدولة مقابل الجماعة: صراع مشروعيات
بسقوط النظام، برز صراع على من يملك الحق في إعادة بناء السلطة، ويقدم مشروع عطوان تصورا جذريا؛ فالدولة ليست مؤسسات تمثيلية بل شبكة دعوية جهادية، والقرار لا ينبع من الانتخاب بل من التمكين، القوة، والشرعية المستمدة من الشريعة، وهذا يهدد أي محاولة مدنية لبناء سوريا جديدة.

يمثل نموذج عطوان فهما لكيف تفكر النخب الإسلامية الجهادية في إعادة بناء الدولة بعد انهيار النظام، لكنها، في الوقت نفسه، تشكل تهديدا فعليا لوحدة الدولة، ومفهوم المواطنة، وسيادة القانون، حيث أوجد سقوط النظام في 2024 فراغا يملؤه مشروع عطوان ويهمش القوى المدنية والعلمانية أو حتى الإسلامية غير الجهادية، والمؤكد أن هذا النموذج سيكون أحد أبرز المشاريع المتنافسة على شكل الدولة السورية القادمة، وأن فهمها وتحليلها ضرورة استراتيجية لفهم الصراع السوري القادم.