هامش السلام المؤجل.. مسار العلاقات السورية – “الإسرائيلية” في ظل الانكفاء والتقاطع

الدرس السوري يتلخص بأن الجغرافيا كقدر لا يُلغى، فمنذ هدنة 1974، ظلت العلاقات السورية – “الإسرائيلية” حبيسة التوازن الدقيق بين الحرب المؤجلة والسلام غير المكتمل، وبينما تبادلت العاصمتان رسائل مباشرة وغير مباشرة على مرّ العقود، لم يتمكن أي طرف من تحويل معادلة العداء إلى حالة تسوية دائمة، وأبرز ما يميز هذه العلاقة هو “السلام غير المتحقق” الذي يُحاصر بين خرائط الصراع وخرائط الفرص الضائعة.

السياق البنيوي للعلاقة

في قلب العلاقة بين سوريا و”إسرائيل”، يكمن توازن هشّ بين الصراع التقليدي والتحولات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي، ورغم أن خطوط المواجهة لم تتغير ميدانيا، فإن البنية العميقة لهذا النزاع تطورت مع تغير الفاعلين وتبدل أولوياتهم، فالعلاقة لا تُختزل فقط في حرب أو سلام، بل تتغذى على بنية أمنية وسياسية مركبة، ومن هذه النقطة يصبح فهم السياق البنيوي ضرورة لفهم ثوابت الصراع ومحدداته.

  • الجولان بوصفه مركز الجاذبية

لا يمكن الحديث عن العلاقات السورية – “الإسرائيلية” دون البدء من مرتفعات الجولان التي تحوّلت منذ احتلالها في 1967 إلى ركيزة مركزية في المعادلة، فبالنسبة لسوريا، يشكل الجولان بعدا سياديا ووطنيا لا يُساوَم عليه، أما بالنسبة لـ”اسرائيل”، فالجولان، بعد ضمه رسميا عام 1981 (وإعلان ترامب الاعتراف به كجزء من إسرائيل عام 2019)، هو في صلب استراتيجية أمنها القومي.

الجولان بالنسبة لـ”إسرائيل” كان دوما أكثر من مجرد أرض؛ إنه معبر مفاهيمي للصراع بين روايتين: واحدة ترى الأرض كبداية للسلام، وأخرى تراها نهاية للأمان.

  • معادلة الردع والاستنزاف

في غياب قنوات دبلوماسية مباشرة، سادت العلاقة طيلة العقود الأربعة الماضية نمط مزدوج؛ ردع عسكري صارم على الجبهة، واستنزاف سياسي واستخباراتي في الميدان السوري، خاصة بعد عام 2011، ورغم أن خطوط وقف إطلاق النار ظلت صامتة نسبيا، فإن الجبهة السورية تحوّلت إلى ساحة لتصفية حسابات “إسرائيل” مع إيران، عبر اعتداءات جوية متكررة ادعت “إسرائيل” أنها استهدفت مواقع الحرس الثوري والميليشيات الحليفة.

ثانيا: لحظات الفُرص الضائعة

وفق منطق العلاقات الدولية فإن المسار السوري – “الإسرائيلي” يتم النظر إليه من زاوية “الفرص التي تُصنع ثم تُهدر”. ولعل أبرز هذه اللحظات:

  • محادثات مدريد 1991 وما تبعها من قنوات ثنائية.
  • لقاءات شيمون بيريز ووليد المعلم في عهد حافظ الأسد، التي كادت تفضي إلى اتفاق لولا اغتيال رابين وتصلّب الموقف السوري بشأن “خط 4 حزيران”.
  • مفاوضات جنيف 2000 التي انهارت فجأة بعد “لقاء الأسد – كلينتون” بسبب بضعة أمتار على شاطئ طبريا.

كانت الاتهامات “الإسرائيلية” للجاني السوري بأنه لم يتمتع بالمرونة، ولكن حتى بالنسبة لبعض السياسيين “الإسرائيليين” فإن “تل أبيب” فشلت في إعطاء سوريا “عرضا يصعب رفضه”، وكانت المحصلة علاقة تقف دوما عند عتبة التسوية دون عبورها.

ثالثا: ما بعد 2011 – التقاطع الصامت

مع بدء الاضطراب في سوريا عام 2011، دخلت العلاقات السورية – “الإسرائيلية” مرحلة مختلفة بُنيت على تقاطعات أمنية غير معلنة، فتراجعت الدولة السورية إلى الداخل، بينما تمددت الفاعليات الإقليمية على أرضها، ما غيّر طبيعة الاشتباك التقليدي، وباتت العلاقة تُدار في الظل، وبوسائل لا تُقرّ بها العواصم رسميا، وتحوّلت الفوضى إلى غطاء ترتّبت تحته تفاهمات صامتة.

  • الفوضى كغطاء لـ”تفاهمات أمنية

بعد اندلاع أحداث العنف والإرهاب في سوريا، تغيّرت قواعد الاشتباك بين سوريا و”إسرائيل”، لا إلى حرب مفتوحة، بل إلى نوع جديد من “التعايش الأمني القلق”، فـ”تل أبيب” تبنّت منذ البداية سياسة “عدم التدخل في سقوط الأسد، وعدم السماح لإيران بالسيطرة على سوريا”، وهو موقف تم ترجمته بغارات جوية مكثفة وموجهة، سمّاها “الإعلام الإسرائيلي”: “المعركة بين الحروب”.

المفارقة هنا أن هذه الغارات لم تواجَه بردّ مباشر من دمشق، بل على العكس، حافظ النظام على خطاب “الرد في الزمان والمكان المناسبين”، ما يشير ضمنا إلى نوع من إدارة التوتر دون انفجار.

  • الجنوب السوري كمنطقة اختبار

منطقة درعا والقنيطرة، القريبة من الجولان، شكّلت مختبرا خاصا للعلاقة الجديدة، فبعد سيطرة دمشق على الجنوب في 2018، عبر وساطة روسية، تسربت تقارير عن قنوات اتصال غير مباشرة مع “إسرائيل”، عبر وسطاء روس وأطراف عشائرية، هدفت لضبط النفوذ الإيراني مقابل تغاضي “إسرائيل” عن إعادة انتشار الجيش السوري التقليدي.

رابعا: لماذا لم يتحقق السلام؟

  • كانت رؤية دمشق أن أي تنازل عن الجولان حتى مقابل تطبيع كامل يمثل انتحارا رمزيا.
  • الهوة العميقة في الثقة فسنوات من الحرب والاستخبارات والتدخلات خلقت مناخا يجعل التفاوض مغامرة محفوفة بالخيانة في نظر الطرفين.
  • أي اتفاق مع “إسرائيل” يقتضي تغير المنظومة الإقليمية التي تضم دمشق وطهران، وهو ما لم تكن دمشق تريد التعامل معه.
  • السياق الإقليمي المضطرب فتطبيع دول عربية مع “إسرائيل” لم يُترجم إلى ضغط فعلي على سوريا لسلوك المسار ذاته.

خامسا: مآلات ما بعد النظام – بين الفراغ والتشكيل الجديد

بانتهاء دور النظام السوري كمركز للقرار، تدخل العلاقات السورية – الإسرائيلية مرحلة غامضة تتسم بإعادة التشكل، لا الاستقرار، فالمعادلة التقليدية القائمة على “العدو الصامت” لم تعد صالحة، وتبرز في الأفق ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

  • فراغ جيوسياسي وانكشاف الحدود

مع غياب الدولة المركزية، يصبح الجنوب السوري عرضة لتنافس الفاعلين: إيران، إسرائيل، الفصائل المحلية، وربما روسيا، وهذا الفراغ يخلق بيئة “ما بعد الردع”، حيث تختلط العمليات الأمنية بالمصالح المتداخلة دون ضابط مؤسسي واضح.

  • مقاربة أمنية متعددة الأطراف

تفرض إسرائيل وروسيا، وربما الأردن والولايات المتحدة، ترتيبات مؤقتة لإدارة الجنوب السوري، تقوم على تفكيك شبكات التهديد (الإيرانية أو الجهادية)، مقابل تسهيلات ميدانية، وهذا النمط لا يُنتج سلاما، بل إدارة مؤقتة للحدود و”مناطق عازلة” بلا عمق سياسي.

  • ولادة كيان سوري جديد بشروط إقليمية

في حال ثبتت السلطة سياسية الجديدة في دمشق موقعها، مدعومة بتفاهمات إقليمية ودولية، فسيُعاد طرح ملف السلام مع “إسرائيل” ضمن تسوية أشمل، لكن وفق قواعد جديدة: لا تعيد إنتاج مطالب النظام السابق، ولا تُسلّم بالكامل بشروط “تل أبيب”، وسيكون ذلك مسارا معقدا، لكن ممكنا على المدى المتوسط، إذا نضجت التوازنات الدولية وأُعيد تعريف “سوريا” جغرافيا وسياسيا.

الجغرافيا لا تكفي لصنع السلام لأنهليس نتيجة للحدود فقط، بل لإعادة تعريف المصالح، والعلاقات السورية – “الإسرائيلية” تجسّد هذا المنطق المعطوب، فإنها علاقة يهيمن عليها الشك والردع والأطراف الوسيطة، وما لم يحدث تحوّل جذري في بنية النظامين أو في التوازنات الإقليمية، فإن هذه العلاقة ستبقى عالقة في مستوىما دون الحرب وما دون السلام”  وهو عنوان الفصل الذي لم يُكتب بعد في سجل العلاقات بين دمشق و”تل أبيب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *