“هدنة في زمن الانهيار”: حديث أحمد الشرع للـ ـJewish Journal مؤشر تحول عقائدي أم مناورة اضطرارية؟

في خطوة غير مسبوقة من حيث الشكل والدلالة، اختار الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، The Jewish Journal —  كمنبر يهودي– أميركي بارز ومنصة لطرح رؤيته الجديدة بشأن العلاقة مع “إسرائيل”.

الخطوة بحد ذاتها تُشكل قطيعة رمزية مع سياسة إعلامية ظلت لعقود تعتبر أي تواصل مع منصات “إسرائيلية” “تطبيعا مرفوضا”، فما الذي يدفع دمشق “الجديدة”، حتى في لحظة ضعف، لأن تخاطب نخبة إعلامية “إسرائيلية” وأميركية بهذه الطريقة المباشرة؟ وهل نحن أمام تحوّل تتبناه عقيدة العهد الجديد أم توجّه علاقات عامة سياسية مدروس؟

  1. دلالات اختيار المنبر: من الإعلام الوطني إلى “الدبلوماسية النخبوية

في التفكير الاستراتيجي، لا يُختار المنبر الإعلامي عبثا، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية سيادية كالعلاقة مع “إسرائيل”، وحديث الشرع لم يُوجَّه من دمشق، ولا إلى الشارع السوري، بل نُشر في صحيفة ذات تمثيل وتأثير داخل شبكات الضغط اليهودية الأميركية، لا سيما في الساحل الغربي للولايات المتحدة.

هذه الإشارة وحدها كفيلة بطرح سؤال من يخاطب الشرع، وما هي شرعيته باتخاذ مثل هذا القرار الذي تعود مسوؤليته على الشعب السوري وحده وقراره ضمن هيئاته الدستورية؟ ولماذا؟ الواضح أن الرسالة لم تكن موجهة إلى المواطن السوري أو حتى العربي، بل إلى صنّاع القرار في واشنطن وتل أبيب وهذه خطوة تعكس انتقال دمشق من خطاب الجماهير إلى خطاب النخبة الدولية، ومحاولة لشرعنة العهد الجديد عبر خطاب محسوب في لحظة حرجة من عمر الدولة.

  • مفردات مشحونة… بلغة تهدئة استراتيجية

خاطب الشرع جمهوره الجديد بلغة نزع فتيل، حيث غابت الكلمات الصدامية (صهيونية، احتلال، مقاومة…) لصالح لغة تقنية: “ضبط متبادل”، “ترتيبات حدودية”، و”فرص سلام”، وهذه ليست مجرد إعادة صياغة، بل إعادة تموضع رمزي، فالخطاب في حد ذاته يؤشر على نية “تبييض الملف السوري” في عيون صانعي القرار الأميركيين و”الإسرائيليين”، عبر القفز على عقود من العداء الخطابي.

لكن في السياق الجيوسياسي، هذه اللغة تطرح معضلتين:

  • فقدان الداخل مقابل محاولة كسب الخارج.
  • إضفاء طابع مؤسساتي على خطاب لا يملك قاعدة سياسية حقيقية داخليا.
  • الصحيفة كقناة ضغط: هل نحن أمام لوبي مستهدف؟

The Jewish Journal ليست صحيفة عابرة، فهي منبر يستهدف بشكل خاص نخب الجالية اليهودية الأميركية المتداخلة بقوة مع مؤسسات الضغط السياسي والاقتصادي في واشنطن، والرسالة واضحة فالشرع لا يخاطب “إسرائيل” فقط، بل يخاطب واشنطن من بوابة “إسرائيل”.

الشرع يخاطب اللوبي لا الحكومة، ويسعى لتحويل مسار العلاقة من صراع أمني إلى حوار مصالح، وهذا رهان محفوف بالمخاطر، لأنه يفترض أن المنصة الإعلامية يمكن أن تُعَوَّض عن غياب القنوات الدبلوماسية.

  • رسائل ضمنية إلى تل أبيب: الدروز ونزع الصاعق الحدودي

طرح ملف الدروز في هذا السياق يندرج ضمن رسالة مزدوجة:

  • أولًا، إلى “الداخل الإسرائيلي”: بأن دمشق قادرة على تأمين الحدود عبر ترتيبات ناعمة.
  • ثانيا، رسالة إلى اللوبي اليهودي بأن سوريا لا تهدد أمن “إسرائيل”، بل تعرض الاستقرار مقابل الانفتاح.

لكن هذه المقاربة تصطدم بحقيقة أن “إسرائيل” لا ترى في الجنوب السوري سوى منطقة أمنية رمادية قابلة للتجريف عند الضرورة، وتبقى الرسائل الرمزية محدودة القيمة ما لم تُترجم إلى وقائع على الأرض.

  1. ترامب مرة أخرى: استدعاء شخصنة النزاع

إعادة إنتاج صورة ترامب كـ”رجل الصفقات” القادر على حل الأزمة في المنطقة ليس عرضا فكريا، بل تكتيك علاقات عامة يخاطب شريحة محددة داخل المؤسسة الأميركية، فالشرع يعيد تدوير الخطاب الذي استخدمه بعض القادة العرب في مرحلة ما بعد 2016 عبر مخاطبة الرئيس الأميركي باعتباره مدخلا لتجاوز تعقيدات الكونغرس والبيروقراطية.

لكن المشكلة أن ترامب، رغم عودته إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، لا يُنظر إليه في أوروبا ولا في أوساط المؤسسة الأميركية التقليدية كرئيس يؤمن الاستقرار، بل يُعتبر زعيما غير تقليدي، يصعب التنبؤ بتوجهاته، ويثير توترا بين الحلفاء الغربيين، والرهان على ترامب كوسيط أو ضامن لحل سوري – “إسرائيلي” يُفسَّر كخيار تكتيكي قصير الأمد، ويعكس قطيعة الشرع مع أدوات السياسة الخارجية الكلاسيكية، بدل الاستناد إلى حسابات استراتيجية طويلة المدى.

  • غياب فلسطين: خطوة محسوبة في خطاب “تبييض سياسي

عدم ذكر فلسطين في حديث الشرع لم يكن إغفالا، بل قرارا مقصودا، فالحديث إلى صحيفة يهودية أميركية، دون الإشارة لقضية مركزية في الوعي العربي والإسلامي، هو بمثابة رسالة حسن نية لـ”إسرائيل “وحلفائها.

إن هذا التوجه يوضح تناقضا بنيويا، فكيف يمكن لدولة بُنيت رمزيا على عداء “إسرائيل” أن تتعامل مع نظام لا يحمل خطابه تلميح إلى حق اللاجئين أو القدس على الأقل! الجواب يظهر في خطاب الشرع؛ فلسطين لم تعد شرطا ولا أولوية، بل عقبة تمّت إزاحتها.

رغم كل هذه الإشارات، فإن الرد “الإسرائيلي” كان شبه معدوم. وهذا يعكس حقيقة جوهرية، ف تل أبيب لا ترى دمشق لاعبا يُستحق التفاوض معه، وحديث الشرع، رغم رمزيته، لم يغيّر في المعادلة الاستراتيجية، فـ”إسرائيل” تفضّل سوريا ضعيفة ومفككة، دون أعباء تفاوض أو شراكة.

بل يُمكن القول إن إسرائيل، التي تجنبت التعليق، اختارت تجاهل الخطاب بدلا من الرد عليه، في ما يشبه الاحتقار الاستراتيجي لا الرفض التكتيكي.

خطاب أحمد الشرع عبر The Jewish Journal  ليس تغييرا في العقيدة السورية، بقدر ما هو مناورة تستهدف التأثير على هوامش القرار الغربي – “الإسرائيلي”، هو حديث علاقات عامة لدولة في حالة انهيار تسعى لتأجيل السقوط لا لبناء تحالفات دائمة.

لكن دون مشروع داخلي واضح، وإعادة بناء للشرعية المحلية، فإن أي خطاب خارجي، مهما كان متقنا، سيبقى فاقدا للوزن الجيوسياسي الحقيقي، فالحكم الجديد في سوريالا يُعاد تأهيله في أعين الآخرين ما لم يعيد الشرعية للشعب السوري ولمؤسساته الدستورية وخياراته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *