في قراءة الجغرافية بوصفها “سلاحاً للفهم” حسب رأي إيف لاكوست، فإن الفاعلين السياسيّين لا يتحرّكون في فراغ، بل فوق مسرحٍ تفرض تضاريسه وحدود مياهه ومصادر طاقته قيودا وفرصا، ومن هذا المنظور يتجلّى المكوّن الكرديّ السوري كطرف يملك “قوّة المكان” وليس مجرّد هويّة تضاف إلى المكون السوري المتنوع.
يسيطر الأكراد على دلتا النفط والغاز الأكبر في البلاد (عُقدة العمر—الرميلان—الشدّادي)؛ وينتشرون على مجرى الفرات من جرابلس إلى بحيرة الأسد، حيث «الهيدرو–پوليتيك» تقرّر مصير الزراعة وكهرباء المدن السورية؛ ويُمسكون أيضا بخط حدوديّ طوله ٦٠٠ كم مع تركيا والعراق، وهو خط يتحوّل مع كل أزمة إلى صمّام مرورٍ أو عَصَب حصار لدمشق.
في القراءة العامة لسوريا بعد 2011 فإن هذه العناصر الثلاثة السابقة، الطاقة، الماء، والممرّ، تجعل من الأكراد ثقلاً جيوبولتيكياً يتيح لهم اليوم إعادة ضبط ميزان القوى الداخلي، فلا يكتفون بالمطالبة بالحقوق الثقافيّة، بل يعرضون “علاقة جديدة” عبر إدارةٌ لامركزيّة مقابل صيانة وحدة الدولة ومنع الانفصال، على هذا المسرح، يصبح التفاوض مع دمشق، وتهدئة المخاوف التركيّة، والحفاظ على الغطاء الدولي، مجرّد امتداداتٍ لقاعدة بسيطة: “من يملك عقدة الشمال الشرقي يملك القدرة على خنق أو إنعاش الاقتصاد السوري”.

أوراق القوّة الكرديّة الراهنة
على نقيض البيئة السياسية الهشة في معظم أرجاء سوريا، فإن الأكراد يملكون بنيتين مترابطتين، عسكرية وسياسية، وخلال سنوات الحرب اكتسبت الإدارة الذاتية خبرة واضحة في التعامل مع الأطراف الداخلية وحتى الإقليمية، فهم يتمتعون حاليا:
- كتلة جغرافية/مؤسسية صلبة
بعد توقيع اتفاق 10 آذار 2025 بين قيادة قسد والرئاسة الانتقالية لدمشق، صارت معظم المعابر الحدودية، ومطار القامشلي، وحقول النفط والغاز شرقي الفرات جزءاً من إدارةٍ مشتركة، مع بقاء البُنية الأمنية لقسد دون حسم نهائي، هذا النفوذ الميداني يمنح الأطر الكرديّة قدرة تفاوض حقيقية لأنها تتحكم في مواردٍ حيوية وطرق إمداد خارجيّة. - توحيد القرار السياسي
استطاعت القوة الكردية من فسح مجال لإمكانية وجود إدارة سياسية فاعلة، فبعد “مؤتمر وحدة الصفّ الكردي” في القامشلي (26 نيسان)، بات واضحا طبيعة المرونة السياسية، فالمؤتمر جمع أكثر من 400 مندوب من “المجلس الوطني الكردي (ENKS) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزاب ثانوية، وأقرّ رؤيةً دستورية لسورية برلمانية لا مركزية، ولجنة قيادة ثلاثية، ووفدا تفاوضيا واحداً مع دمشق، وكان لانسحاب ENKS قبل شهرين من الائتلاف المعارض دور في الدخول ضمن هذا المسار شريك لا كمعارضةً فرعية - غطاء دولي انتقائي
رحّبت واشنطن بالمؤتمر وأعادت التلميح إلى أن تقدّم الحوار الكردي–الكردي شرطٌ لأي دعم اقتصادي في مرحلة إعادة الإعمار، وهذا “الحافز” يسمح للكرد بجرِّ دمشق نحو ترتيباتٍ لامركزية خشية خسارة الدعم الغربي.
القيود التي تكبح الحركة
رفضت دمشق أي صيغة فدرالية واضحة، وبعد أقل من 24 ساعة على مؤتمر القامشلي، أصدرت الرئاسة السورية بياناً يرفض “الفدرلة أو الكيانات المنفصلة” ويعتبرها مساساً بوحدة البلاد، فما تعتبره دمشق تنازلات قدّمتها في اتفاق الدمج (آذار) كانت أمنية/إدارية، لا دستورية، وهي قابلة للتراجع إذا شعرت القيادة الانتقالية بأنها تتعرّض لضغطٍ داخلي.
في المقابل ظهر فيتو تركي بعد أن أعلنت أنقرة مجدّداً في 1 أيار أنها لن تقبل “أي لامركزية تتيح حمل السلاح خارج سلطة دمشق”، وطالبت بحلّ البُنية العسكرية لقسد كجزءٍ من تنفيذ اتفاق الدمج، واستمرار هذا الفيتو يعني أن قدرة الكرد على استثمار أوراقهم مربوطة إلى حدّ بعيد بمدى قبولهم ترتيبات أمنية تُرضي تركيا.
رغم أن بيان القامشلي يؤشر على بداية جديدة للحركة الكردية، لكن الصراع التاريخي بين خطّ حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تتهمه تركيا بالولاء لحزب العمال الكردستاني، والمجلس الوطني الكردي الذي يعتبر امتدادا لتيار البرزاني في سوريا، لا يزال قائماً، وظهر ذلك في الجدل حول نسب التمثيل داخل اللجنة الرئاسية المشتركة، وأي انشقاقٍ جديد سيُضعف الموقف التفاوضي أمام دمشق وأنقرة معاً.
كيف يمكن للأكراد إعادة رسم الموازين؟
الدور الكردي في الواقع السوري الحالي هو “مسمار الميزان” في الجغرافيا السورية، فمن يتحكّم بمياه الشريان الأزرق (الفرات) وحدود الشمال الشرقي يملك مفتاح غذاء دمشق وطاقة ساحلها، وعلى هذه القاعدة يتحدّد مسار الدولة، فهل تُعاد هندستها بفدراليةٍ رخوة أم تعود القبضة المركزية فتصهر الهوامش؟ فبين ضغوط أنقرة، وإغراء واشنطن، واستدارة موسكو، يجد الكرد أنفسهم صانعين لخرائط جديدة لا مجرّد قراءٍ لها، وتلك هي الخلفية التي تمنح كلّ سيناريو تالٍ وزنه الحقيقي: من لامركزيةٍ تفاوضية إلى دمجٍ مشروط أو نكوصٍ يعيد شرارة الحرب.
أولاً: سيناريو اللامركزية التوافقية
إذا حافظت القوى الكردية على كتلتها الجغرافية في الشمال‑الشرقي، ونجحت في الإبقاء على وفد تفاوضي موحّد يحظى بغطاءٍ أميركي وأوروبي، فإنها تمتلك ورقة ضغط فعّالة على دمشق، فسيطرتها على النفط والقمح والمعابر الحدودية تجعلها قادرة على إغراء السلطة الانتقالية بفكرة “الاستقرار مقابل اللامركزية”، أي الإقرار بدورٍ تشريعي وتنفيذي واسع للإدارة الذاتية في مقابل التزام الكرد بضمان وحدة الأراضي السورية ومنع أي نزعة انفصالية، وفي هذا السيناريو، يتحوّل المكوّن الكردي من مجرّد صاحب مطالب ثقافية إلى صانع قواعد دستورية جديدة، إذ يفرض تضمين دستور ما بعد البعث موادّ تعترف باللغة الكردية وتحوّل المجالس المحلية إلى مؤسسات منتخَبة ذات صلاحيات محدَّدة، وبذلك يُعاد رسم الخريطة الإدارية لسورية بحيث تصبح القامشلي ورقة موازنة بين دمشق وحلب بدلاً من هامش بعيد عن المركز.
ثانياً: سيناريو الدمج المُشترط
يقوم هذا المسار على تنفيذ تدريجي لاتفاق 10 آذار 2025 الذي يقضي بضمّ أجزاء من قوات سوريا الديمقراطية إلى بنية الجيش السوري مقابل اعترافٍ محدود بالإدارة الذاتية، وهنا تضغط تركيا والقيادة السورية معاً لجعل الحلّ الأمني مقدِّماً على الاعتراف السياسي؛ فيُشترَط تفكيك الوحدات الأكثر ارتباطاً بحزب العمال الكردستاني قبل تثبيت أي مكاسب دستورية، ويمكن للقادة الأكراد القبول بهذا الدمج إن ضمن لهم مقاعد رمزية في الحكومة المركزية وفتح الطريق أمام استثمارات غربية في إعادة الإعمار، ويصبح النفوذ الكردي قناة لإعادة تدوير النظام بدل تغييره، حيث يمنح دمشق شرعية عسكرية، ويعطي أنقرة ضمانة أمنية، بينما يحتفظ الكرد بقدر من الحكم المحلي يقيهم العودة إلى ما قبل 2011، والنتيجة المتوقَّعة هي إصلاح إداري محدود يرسّخ مركزية مخفَّفة لا تصل إلى الفدرالية الفعلية.
ثالثاً: سيناريو التصعيد
يفرض نفسه إذا تعثّر الحوار الداخلي بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، أو تراجع الدعم الأميركي واتسع الفيتو التركي، وعندها ستفكر دمشق بنشر جيشها تدريجياً في الشرق بدعمٍ تركي، فتنحصر المكاسب الكردية في المجال الثقافي أو حتى تتآكل، فأي تصعيد ميداني سواء بهجوم تركي جديد أو باحتكاك بين الجيش السوري والوحدات الكردية، يعني انقلاب المعادلة فتنتقل الإدارة الذاتية من موقع الشريك المحتمل في صياغة الدستور إلى موقع الطرف المُطارَد أمنيّاً، لتعود البلاد عملياً إلى نموذج ما قبل 2011، مع خطر موجة نزوح جديدة وتدهور اقتصادي يحرم دمشق من ثروات الطاقة والقمح.
بهذه الاحتمالات الثلاث يتضح أن تأثير الكرد على المسار السوري لا يُقاس بعدد مقاعدهم في البرلمان المستقبلي وحده، بل بقدرتهم على استثمار «جيوبولتيك المكان»—المعابر، النهر، والموارد—لفرض إما تعديلات دستورية عميقة، أو صفقة أمنية تضمن قدراً من الحكم الذاتي، أو في أسوأ الأحوال خلق اختلال قد يعيد إشعال الحرب المفتوحة في الشمال الشرقي.
يمتلك المكوّن الكردي أوراق ضغطٍ نوعية، تبدأ بالمؤسسات السياسية والعسكرية والموارد، وتمثيل سياسي موحّد، ورغبة دولية في استقرار شرق الفرات، لكن تحويل هذه الأوراق إلى وزن دستوري دائم يتطلّب ثلاثة شروط متداخلة:
- تثبيت الوحدة الداخليّة زمنياً إلى حين إنجاز الدستور.
- تقديم صيغة أمنية تُطمئِن تركيا من دون تسليم كامل للقرار العسكري.
- إقناع دمشق بأن اللامركزية يمكن أن تكون رافعةً لاستقرار السلطة الانتقالية لا تهديداً لوحدة البلاد.
إذا نجح الكرد في موازنة هذه المعادلات، فإنّهم قادرون على فرض توازنٍ سياسي جديد يجعلهم شريكا مؤسِّسا في “سورية ما بعد البعث” بدلاً من مجرّد طرفٍ تفاوضي على الحقوق الثقافية فحسب، أمّا إذا أخفقوا، فسيناريو الانكفاء إلى وضع ما قبل 2011 سيظلّ قائماً، مع ما يحمله من تجدد الصدامات وموجات النزوح.