في زمنٍ يتحدّث فيه الجميع عن “الاستقرار” و”إعادة الإعمار”، تُعاد الجغرافيا السورية رسما ومضمونا على نحو صامت وخطر لا عبر خرائط المفاوضات، بل عبر حركة أكثر بطئا وفتكا من خلال التهجير القسري.
ما كان يُعدّ جريمة حرب في الأمس، صار اليوم ممارسة إدارية تحت ذرائع “الأمن” أو “تنظيم السكن”، ومن الساحل إلى العاصمة، يتكشف مشروع خفيّ في إعادة توزيع السوريين بما يتناسب مع موازين السلطة الجديدة، لا مع مقتضيات العدالة.
الجغرافيا ليست بريئة
حين كتب المفكر الفرنسي إيف لاكوست عبارته الشهيرة “الجغرافيا تُستخدم أولا في الحرب”، كان يعني أن السيطرة على المكان هي الوجه الأعمق للسلطة، وفي سوريا 2025، تتجلى هذه الحقيقة بقسوة نادرة، فالمكان لم يعد مساحة للعيش، بل أداة لإدارة الولاء والخوف.
من ريف حماة إلى المزة في دمشق، تتكرّر القصة نفسها بأسماء مختلفة؛ فصيل مسلح وتهديد مباشر ومهلة بالإخلاء، وصمت الدولة.
حادثة حيّ الحرّية في المزة تكثّف كل ما سبق، ففي التاسع من تشرين الأول، دخل فصيل بقيادة “أبو النور” الحيّ، وأطلق النار في الهواء، وردد شعارات طائفية ضد العلويين، وجمع الأهالي في الساحة لإجبارهم على توقيع تعهدات بإخلاء منازلهم خلال ثلاثة أيام.
لم تكن المنازل عشوائية أو مغتصبة، بل مملوكة بأحكام قضائية مبرمة منذ عام 2004، أي أن الجريمة لم تكن اعتداء على “مخالفات بناء”، بل على الملكية القانونية نفسها.
وبين التاسع والثلاثين من الشهر ذاته، توالت المداهمات بقيادة “أبو حذيفة” و”أبو أنس”؛ إهانات طائفية، وضرب وتعذيب، وسرقة ممتلكات، وتهجير تحت تهديد السلاح.
من الساحل إلى العاصمة: خريطة تهجير واحدة
منذ مارس 2025، بدأ مسار متدرج من العنف الطائفي في الساحل السوري وريف حماة، والصحف، واشنطن بوست ولوموند والغارديان، تحدثت عن مئات القتلى، وعن “موجة انتقامية” طالت مدن وقرى بأكملها مثل جبلة، والنتيجة نزوح أكثر من خمسين ألف مدني، معظمهم من أبناء الطائفة العلوية، وفق تقديرات منظمات حقوقية.
الحدث لم يبقَ في الأطراف، ومع الوقت وصل إلى المدن الكبرى، ففي ضواحي دمشق الغربية، سُجّلت حوادث تهجير مماثلة في ربيع العام نفسه، ويشير تقرير رويترز إلى أن عشرات العائلات العلوية غادرت قسرا بعد تلقيها تهديدات مباشرة.
أما هيومن رايتس ووتش فربطت هذه الوقائع بسياق أوسع أطلقت عليه اسم “عمليات القتل والتهجير على أساس الهوية أثناء انتقال سوريا”.
عمليا ما يجري ليس صدفة، ولا ردة فعل آنية، بل جزء من إعادة هندسة اجتماعية – سياسية، تُفرغ مناطق معينة وتعيد ملأها بتركيبة مختلفة.
العلويون: من رمزية السلطة إلى هشاشة الوجود
من المفارقات أن أبناء الطائفة العلوية، الذين ارتبط اسمهم لعقود بالنظام، صاروا اليوم ضحية لهشاشةٍ غير مسبوقة، ففي التقارير الحقوقية البريطانية (يوليو 2025)، يُشار بوضوح إلى أن أي شخص يُعتقد أنه علوي “يواجه خطر الاضطهاد أو الأذى الجسيم من الدولة أو جهات غير تابعة لها”.
تلك الجملة وحدها تختصر انقلاب التاريخ السوري؛ الهوية أصبحت ذريعة للانتقام والإقصاء.
في حيّ الحرّية، كانت الإهانات طائفية صريحة؛ ولا يمكن فهم هذا النوع من الخطاب خارج سياق محاولة إعادة تعريف الانتماء، بحيث يُصبح البقاء في مكانٍ ما امتيازا يقرره السلاح لا المواطنة.
الدولة الغائبة… والفصائل الحاضرة
حين لجأت العائلات إلى وزارة الداخلية لتقديم شكوى، قيل لهم إن الفصيل “لا يتبع للوزارة”، وحين قصدوا محافظة دمشق، كان الجواب “الدوام انتهى”، فتم اختصار العلاقة بين الدولة والمواطن في جملةٍ بيروقراطية باردة، تكشف جوهر الأزمة، فالسلطة لم تعد مركزية، بل موزعة بين جماعات متنازعة تملك حق العنف دون مسؤولية القانون.
ما يُسمى “اللامسؤولية المنظمة” هو أخطر أشكال الانهيار، فهو يسمح للسلطة بالتنصل من الأفعال التي تجري تحت عينها، دون أن تنكرها تماما، فهي تعرف، لكنها لا تريد أن تعرف.
بين المعرفة والإنكار، يضيع المواطن، وتُصادر الأرض، ويُكتب التاريخ من جديد بأسماء الميليشيات لا الوزارات.
المكان كأداة للسيطرة
في منطق لاكوست، السيطرة على الأرض ليست هدفا ماديا فقط، بل وسيلة لإنتاج المعنى السياسي، فحين تُهجَّر جماعة من حيٍّ ما، تُمحى سرديتها من المكان، وتُستبدل بسردية المنتصر، ويحول المكان من فضاءٍ للعيش إلى أرشيفٍ صامت للهيمنة.
هكذا تُمحى الذاكرة قبل أن تُكتب، ففي حيّ الحرية، لم يُطرد الناس من منازلهم فحسب، بل من تاريخهم الصغير داخل المدينة، ومن مقاعد المدارس التي درسوا فيها، والأزقة التي عرفوا وجوهها، من المساجد والمقاهي التي كانت جزءا من نسيج الحياة اليومية؛ إنها حرب على الذاكرة أكثر من كونها حربا على الممتلكات.
التهجير كلغة سياسية
حين تُمنح عائلة مهلة 24 ساعة لإخلاء بيت تملكه بحكم قضائي، فالأمر لا يتعلق بالنزاع على عقار، بل بالتحكم في الزمن ذاته، ومنحُ مهلة قصيرة يعني أن حياة الناس قابلة للضغط في يوم واحد، وكل ما هو إنساني من الوداع والترتيب يُختزل إلى لحظة فوضى، وهذه هي لغة التهجير؛ إلغاء الزمن كأداة إخضاع.
الصمت الدولي أمام هذا المشهد ليس عجزا فقط، بل تواطؤ من نوع مختلف، فالعالم الذي يرفع شعار “العودة الطوعية” للاجئين يغضّ الطرف عن تهجيرٍ جديدٍ يحدث داخل البلاد نفسها؛ إنه سلام يُبنى على مقابر مفتوحة.
ما وراء الجغرافيا: سياسة الذاكرة
كل تهجيرٍ هو أيضا محاولة لإعادة كتابة الذاكرة الوطنية، فحين تُفرغ منطقة من سكانها، ويُستقدم إليها آخرون، يُعاد إنتاج التاريخ عبر السكان الجدد، فاللغة تتغير والعلاقات تتبدل والهوية تذوب، ويصبح التهجير ليس فعلا آنيا بل سياسة مستقبلية لتهيئة جغرافيا لا تتذكر ما كان قبلها.
ولهذا السبب، يصبح التوثيق واجبا وطنيا قبل أن يكون حقوقيا، وقاعدة البيانات التي توثق تواريخ، وأسماء الفصائل، وعدد العائلات المهجرة، ليست مجرد سجل للمعاناة؛ إنها خريطة مضادة تحافظ على وجود من أُزيلوا من المكان.
الجغرافيا لا تموت
التهجير القسري الذي يتعرض له أبناء الطائفة العلوية منذ مطلع عام 2025 ليس مجرد مأساة إنسانية، بل حدث جيوسياسي يعيد تعريف السلطة والمكان في سوريا، فالمدن لا تُبنى فقط بالإسمنت، بل بالتوازنات التي تعيش فيها.
حين يُكسر هذا التوازن بالعنف، تُصبح الجغرافيا سلاحا صامتا في يد من يريد السيطرة على المستقبل، وربما لا يملك المُهجَّرون اليوم منازلهم، لكنهم يملكون حقيقة واحدة؛ أن المكان لا يُختصر بالخرائط، بل بالذاكرة، وإذا كان الطغيان قادرا على محو الجدران، فلن يكون قادرا على محو التاريخ الذي سكنها.
إيف لاكوست كتب أن “من لا يعرف الجغرافيا لا يمكنه أن يفهم السياسة”، وفي سوريا اليوم، من لا يفهم التهجير لن يفهم النظام الجديد الذي يُراد بناؤه على أنقاض البلاد.
إنها ليست عودة إلى الحرب، بل استمرارها بأدواتٍ مختلفة، فالسلام الذي يُقام فوق الظلم، ليس سلاما.
خريطة التهجير الديموغرافي في سوريا 2025
تفاصيل مناطق التهجير الرئيسية
منطقة الساحل السوري
- مدينة جبلة: موجة انتقامية طالت المدينة بأكملها
- تهجير أكثر من 50,000 مدني معظمهم من العلويين
- بدأ التهجير الممنهج منذ مارس 2025
- الفصائل المسؤولة: جماعات مسلحة محلية
حي الحرية – المزة (دمشق)
- 9 أكتوبر: دخول فصيل بقيادة “أبو النور”
- إطلاق نار في الهواء وشعارات طائفية
- إجبار الأهالي على توقيع تعهدات إخلاء
- منازل مملوكة بأحكام قضائية منذ 2004
ريف حماة وضواحي دمشق
- مسار متدرج من العنف الطائفي
- مئات القتلى وفق تقارير صحفية
- عشرات العائلات العلوية غادرت قسراً
- تهديدات مباشرة بالإخلاء
السياق الأوسع: إعادة الهندسة الديموغرافية
ما يحدث ليس مجرد تهجير عشوائي، بل عملية ممنهجة لإعادة رسم الخريطة السكانية في سوريا:
- تحويل التهجير من “جريمة حرب” إلى “ممارسة إدارية”
- استخدام ذرائع “الأمن” و”تنظيم السكن” لتبرير التهجير
- إعادة توزيع السوريين وفق موازين السلطة الجديدة
- محو الذاكرة الجمعية وإعادة كتابة التاريخ

