في سوريا 2025، ما تزال السجون تمثّل الجانب الأكثر غموضا في مشهد سياسي يدّعي الاستقرار.
وراء الجدران الصامتة، وفي ممرّات ضيقة تنبعث منها رائحة الرطوبة والعفن، تتكرّر القصص ذاتها؛ اعتقال بلا تهمة أو تحقيقٌ وتعذيب لا نهاية له.
منذ مطلع العام، تم توثيق مقتل تسعةٍ وخمسين شخصا تحت التعذيب في سجون ومراكز احتجاز تديرها الحكومة السورية، إلى جانب عشرات حالات الإخفاء القسري وعمليات دفن جماعي تتم في الخفاء.
هذه الأرقام ليست استثناء، بل مؤشّر على نظام مغلق يقوم على الخوف والإفلات من العقاب، والأخطر أنها تأتي في وقت تُقدّم فيه البلاد نفسها للعالم بوصفها على أبواب مرحلة “العدالة والإصلاح”.
خريطة الموت: من حمص إلى الساحل
تُظهر البيانات الميدانية أن الضحايا توزّعوا على محافظات عدة، ففي حمص وحدها، وُثّق عدد من المقابر الجماعية التي دُفن فيها ضحايا التعذيب دون علم ذويهم، أبرزها مقبرة “تلّ النصر”، وفي طرطوس توفي العميد طارق حبيب اسمندر أحد أبرز الضباط السابقين في القوات الجوية بعد خمسة أشهر من الاعتقال، متأثّرا بالتعذيب والإهمال الطبي.
تُشير هذه الحوادث إلى أنّ آلة القمع لم تَعُد تميّز بين المدني والعسكري، ولا بين الموالي والمعارض، فمن بين الضحايا موظفون محليون، وطلاب جامعيون، ومهندسون، وحتى أفراد من الطائفة العلوية في ريف اللاذقية، ما يعني أنّ الاعتقال لم يعد إجراءً استثنائيا، بل أصبح أداة يومية لإدارة الخوف.
تسلسل زمني لجريمة متكرّرة
- كانون الثاني: مقتل ثمانية معتقلين من ريف حمص في سجون إدارة العمليات العسكرية، سلّمت جثامين بعضهم بعد أيامٍ فقط من اعتقالهم.
- شباط:13 حالة وفاة، بينهم الشاب لؤي طيارة الذي قضى بعد يوم من احتجازه، إلى جانب مهندس عسكري أُعدم ميدانيا.
- آذار: أربعة قتلى تحت التعذيب، بينهم محام وصاحب محل هواتف في بانياس.
- نيسان: سبعة قتلى، بينهم ضابط شرطة من درعا وعنصر أمني سابق من دير الزور.
- أيار – آب: ارتفاع لافت بعدد الضحايا، بلغ أربعة وعشرين شخصا، وفي تموز، قُتلت عائلة كاملة من حي وادي الذهب في حمص بعد أشهر من الإخفاء القسري.
- أيلول – تشرين الأول: ستّ حالات جديدة، منها شاب من طرطوس اعتُقل إثر مشادةٍ مع عنصر أمني، وتوفي بعد أيام.
هذا التسلسل يبيّن أنّ القتل تحت التعذيب ليس طارئا، بل نسقا متكررا يمر بدورات شهرية، تتصاعد وتيرتها في فترات الأزمات الأمنية والسياسية.
منهجية القمع: جسد يُكسر ورسالة تُوجّه
شهادات الناجين تؤكد أن التعذيب في السجون السورية يتم وفق منظومة متكاملة:
أساليب الضرب، الصعق الكهربائي، الإيهام بالغرق، والحرمان من النوم تُمارس بشكلٍ منظم، وغالبا بحضور ضباطٍ من مستوياتٍ مختلفة، وفي بعض الحالات، يُجبر المعتقلون على التوقيع على إفادات كاذبة تُستخدم لتبرير احتجاز آخرين.
لكنّ الغاية ليست انتزاع الاعترافات، بل إرسال رسالةٍ إلى المجتمع:”لا أحد خارج قبضة الدولة”، إنها سياسة ردعٍ تتجاوز جدران السجون إلى الشارع السوري كله، حيث يكفي أن تُتهم بأنك “موضع اشتباه” لتختفي أسابيع أو شهورا أو إلى الأبد.
البنية القانونية: شرعنة الخوف
من الناحية الشكلية، تنصّ التشريعات السورية المعدّلة عام 2023 على تجريم التعذيب، لكنّ هذه النصوص القانونية تبقى بلا قيمة عملية في ظلّ غياب جهاز قضائي مستقل، فالقضايا التي تُرفع ضد عناصر أمن نادرة، وغالبا ما تُغلق بذريعة “الدفاع عن أمن الدولة”.
النيابات العامة لا تملك صلاحية استدعاء ضابط للتحقيق، واللجان الرقابية تُعين من داخل الأجهزة نفسها، فيتحوّل القانون من أداة حماية إلى درع يحصّن مرتكبي الجرائم، فيصبح التعذيب ليس انتهاكا عارضا، بل سياسة تضمن استمرار الهيمنة الأمنية، وتعيد إنتاجها تحت غطاء قانوني هشّ.
الدفن الجماعي: محو الأثر وإلغاء الذاكرة
في حمص وحدها، وثّقت منظمات محلية عدة مقابر جماعية يُعتقد أنّها تضمّ جثث معتقلين قضوا تحت التعذيب، ففي مقبرة “تلّ النصر” تُدفن الجثامين ليلا من دون توثيق رسمي أو إخطار للعائلات، وهذا النمط يهدف إلى طمس الأدلة ومنع أي عملية تحقيق مستقبلية.
أحد العاملين في المجال الإغاثي – رفض الكشف عن هويته – قال:”تُسلَّم الجثث ملفوفة بأغطية عسكرية، والعائلات تُجبر على توقيع أوراق بعدم المطالبة بتشريح أو تحقيق، ومن يرفض، يُهدد بمصادرة ممتلكاته أو اعتقال أقاربه”,بهذه الطريقة، يتحول القبر الجماعي إلى سلاح سياسي، يُغلق القصة ويمنع استمرارها.
صمت الداخل وتواطؤ الخارج
في الداخل، تتعامل السلطات مع هذه الوقائع على أنها “أكاذيب مغرضة”، بينما يعيش المجتمع في حالة إنكار قسري.
أغلب السوريين يتجنّبون الحديث عن السجون، ليس خوفا فقط، بل يأسا من أن الكلام لن يغيّر شيئا، وفي الخارج، يتعامل المجتمع الدولي مع المسألة كملفّ حقوقي هامشي، لا كأزمة إنسانية تتطلب تدخلا عاجلا، فالأمم المتحدة والمنظمات الدولية تكتفي بإصدار بيانات “قلقٍ بالغ”، فيما تتجنّب العواصم المؤثرة أي خطواتٍ عملية يمكن أن تزعزع علاقتها بالحكومة السورية أو تُعقّد ملف اللاجئين.
قراءة في السياسة الأمنية الجديدة
ثمة من يرى أن ما يجري ليس عودة إلى الوراء، بل أسلوب ممنهج للدولة الأمنية؛ الاحتجاز السري يُمارس الآن بتقنيات مراقبة رقمية، وتحت عناوين مكافحة الإرهاب أو حماية الأمن الداخلي، لكن الجوهر لم يتغيّر، فجسد المواطن ما يزال ميدانا لتجريب السلطة.
تُعيد هذه الممارسات إنتاج معادلة قديمة؛ كلما ضاقت شرعية الحكم، اتسع حضور التعذيب، فالخوف هو اللغة التي تحفظ تماسك الدولة عندما تغيب الثقة، والمعتقلون هم الرسائل التي تُرسلها السلطة إلى من يفكّر بالاعتراض.
المحاسبة كاختبار أخلاقي
القضية لم تعد قانونية فقط، بل اختبار أخلاقي للدولة والمجتمع الدولي معا، فالإفلات من العقاب لا يعني فشل العدالة فحسب، بل يعني أيضا تقويض أي أملٍ في مصالحة وطنية مستقبلية، فكل جثة تُدفن بصمت تُعمّق الجرح، وتؤسّس لدورة جديدة من الكراهية.
إذا لم تُفتح السجون أمام لجان تحقيق مستقلة، وإذا لم يُحاسَب المسؤولون أياً كانت رتبهم، فإن سوريا ستبقى رهينة دائرة مغلقة من الاعتقال والتعذيب والصمت والنسيان، ثم إعادة الكرّة من جديد.
الدولة التي تخشى الحقيقة
ما تكشفه الوقائع لا يحتاج إلى تفسيرٍ فلسفي، حين تموت عشرات الأرواح في الزنازين خلال عام واحد، فذلك يعني أن النظام الجديد متمسك بالحكم وبالقضاء على السوريين من غير لونه حتى آخر روح.
الموت هنا ليس نتيجة خطأ إداري، بل نتاج بنيةٍ تعتبر الإنسان تهديدا يجب تقييده، تقول الصور القادمة من مقابر حمص وطرطوس وحلب أكثر مما تقوله البيانات الرسمية، فهي صور بلد يعيش في ظل جدار لا يُرى من الصمت والخوف، حيث يصبح الصراخ جريمة، والنجاة معجزة، والعدالة فكرة مؤجلة إلى أجلٍ غير معلوم.
الموت البطيء في الزنازين السورية: كيف تحوّل التعذيب إلى سياسة دولة
توزع الضحايا حسب المحافظة
خريطة توزع الضحايا والانتهاكات
التسلسل الزمني للجريمة المتكررة
الخاتمة: الدولة التي تخشى الحقيقة
حين تموت عشرات الأرواح في الزنازين خلال عامٍ واحد، فذلك يعني أن الدولة لم تتخلّ بعد عن خوفها من مواطنيها. الموت هنا ليس نتيجة خطأ إداري، بل نتاج بنيةٍ تعتبر الإنسان تهديدًا يجب تقييده.

