المعتقلون السوريون في لبنان: شرارة جديدة في علاقة مأزومة

لم تغير الزيارات الدبلوماسية من طبيعة العلاقة السورية – اللبنانية التي تتآكل بصمت، وأحيانا بصخب، قضية المعتقلين السوريين في لبنان تتجاوز طبيعتها كملف حقوقي أو أمني؛ فهي انكشاف كامل لبنية التوتر العميق بين البلدين، وخلف الجدل القانوني والسياسي، تكمن خرائط سلطة، ومصالح أمنية، واصطفافات إقليمية تتجاوز السجون وتخترق الدولة.

واقع الاعتقال: عندما يصبح القانون ثانوياً

البيانات الصادرة عن منصات إعلامية وحقوقية متعددة، تتحدث عن 1750 إلى 2000 معتقل سوري في لبنان، ولا يمثل هذا الرقم أزمة حقوقية فقط، بل يعكس أيضا حدود “السيادة” اللبنانية عندما تتداخل مع الضغط الأمني والسياسي من الداخل والخارج.

اللافت في الملف أن ما يقارب 190 إلى 200 من المعتقلين يواجهون تهم الإرهاب ذات طبيعة سياسية في كثير من الحالات، والعشرات منهم لم يُحاكموا إطلاقاً، ولم يُعرضوا أمام قضاء فعلي، وبعضهم موقوفون منذ سنوات دون لوائح اتهام، وهذا الاعتقال الإداري لا يقتصر على “المشتبه بهم بالإرهاب”، بل يشمل متهمين بقضايا تزوير وسرقة واختلاس، ما يعكس فوضى معيارية في آليات الاحتجاز.

الإضراب عن الطعام الذي أعلنه أكثر من 100 معتقل سوري في سجن رومية ليس فعلا احتجاجياً فقط، بل رسالة سياسية تتجاوز القضبان: “نحن أدوات في لعبة ليست لنا”.

السياق الأمني: لبنان والخوف من الداخل والخارج

لبنان، بدوره، يعيش رهابا أمنيا مزمنا، فبعد تجربة الحرب السورية، تكرّست نظرة أمنية ترى في كل سوري مقيم مصدر تهديد محتمل، والأجهزة اللبنانية، وخاصة مخابرات الجيش والأمن العام، وسعت صلاحياتها في التعامل مع السوريين، بشكل شبه منفلت من الرقابة القضائية، في ظل دولة تتآكل مؤسساتها القضائية والسياسية، يصبح الاعتقال التعسفي أداة “وقائية” شبه رسمية.

وفاة أربعة سوريين في عرسال عام 2017، ومقتل بشار عبد السعود تحت التعذيب عام 2022، يوضحان أن العنف ليس انحرافا، بل بنية، فالمسألة لا تتعلق فقط بـ”تجاوزات”، بل بنمط منتظم من الاعتقال والعنف الجسدي والنفسي الذي يتغذى من سياسات “الردع”، ويُبرر دائماً بمقولة: “الضرورات الأمنية”.

لبنان كساحة وليس كدولة

في قراءة العلاقات السورية – اللبنانية لا يمكن اختزال الملفات في الجانب الإنساني أو القانوني فقط، بل يجب وضعها داخل شبكة المصالح الجغرافية-السياسية، فلبنان لا يُقرأ كوحدة سياسية مستقلة بل كحيّز مُشترك تتنازعه القوى الإقليمية من “إسرائيل” عبر حديثها عن تهديد حدودها الشمالية إلى الخليج من خلال المساعدات والضغط السياسي، ثم سوريا عبر الحضور الأمني التاريخي، وتركيا التي تتربص من بعيد.

عمليا منذ تغير القيادة السورية عقب انهيار النظام السابق، يبدو أن دمشق تسعى لتصحيح مكانتها الإقليمية من خلال ملفات “إنسانية” عالية الرمزية، فالمعتقلين في لبنان باتوا إحدى هذه الأوراق، وتصريحات الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عن “الاستعداد لاتخاذ إجراءات تصعيدية” تضع لبنان أمام مرآة صعبة؛ فلا يمكن الاستمرار في الادعاء بالسيادة، والاعتقال، والانفتاح في آنٍ واحد.

مطالب دمشق الرسمية تبدو قانونية؛ الإفراج أو المحاكمة العادلة، لكنها عملياً رسالة مزدوجة، إما تنسقون معنا أمنيا بجدّية، أو سنحيل هذا الملف إلى مواجهة إقليمية أو دولية، وفي هذا السياق، فإن أي تدهور في وضع أحد المعتقلين يتحول بسرعة إلى أزمة دبلوماسية، أو حتى أمنيّة.

ما بين المواقف الرسمية والواقع السياسي

في نيسان 2025، زار رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام دمشق، وأعاد فتح ملف المعتقلين السوريين ضمن ما يسمى بـ”لجنة وزارية مشتركة” منبثقة عن اتفاق 28 آذار، ولكن هذه اللجنة حتى الآن لم تُصدر أي نتائج واضحة، والتصريحات العلنية التي شدد فيها سلام على “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” توضح أن بيروت تحاول كسب الوقت، وموازنة الضغوط دون تقديم تنازلات فعلية.

أما الرئيس ميشال عون، فحديثه عن “رغبة في علاقات جيدة” مع سوريا يبدو خطابيا أكثر منه عمليا، فالدولة اللبنانية، المنهكة اقتصادياً وسياسياً، لا تملك قرارا مركزيا في هذا الملف، بل تقوده أجهزتها الأمنية وتُغلفه برداء قضائي هشّ.

الاعتقال كأداة جيواستراتيجية

يمكن قراءة الأدوات الأمنية كعناصر في إدارة توازنات القوى، لا كمجرد تعبير عن دولة القانون، وفي هذه الحالة، يصبح سجن رومية أكثر من مجرد مؤسسة عقابية، فهو مخزن رمزي لأزمة الهوية اللبنانية والعلاقة السورية، والمعتقلون فيه يمثلون “الآخر” المكروه والمخيف والمطلوب في آنٍ واحد.

الاعتقال الطويل دون محاكمة هو رسالة مزدوجة للسوريين أنكم بلا حماية، وللسياسيين أن الأمن أقوى من القضاء، وفي المقابل، تطالب دمشق بالإفراج كإثبات لمكانتها الجديدة، وتوظف ورقة المعتقلين في الضغط على لبنان، الذي يئنّ تحت وطأة أزماته الداخلية.

إلى أين؟

الملف مفتوح. والمشهد معقّد، إذا لم تتخذ السلطات اللبنانية قرارا شجاعاً بتحويل هذا الملف إلى مسار قضائي شفاف، وإذا لم تتخلَ دمشق عن سياسة “الضغط تحت الطاولة”، فسنشهد مزيدا من التوتر والتشهير المتبادل، وربما حوادث جديدة تؤجج الشارعين.

لكن الأهم من ذلك أن المعتقلين السوريين في لبنان ليسوا أرقاما في تقارير ولا أوراقاً في التفاوض، بل بشر يعيشون في جحيم مؤجل، والسكوت عنهم، سواء من بيروت أو دمشق، هو مشاركة ضمنية في استمرار هذا الجحيم.

ليست الأزمة بين لبنان وسوريا أزمة حدود أو دبلوماسية فقط؛ إنها أزمة دولة مقابل لا دولة، وأمن مقابل قانون، وساحة مقابل كيان، وملف المعتقلين هو عرض واضح لانعدام المركزية وغياب الرؤية، حيث تتداخل مآسي البشر مع خرائط السياسة، ويُترك الضعفاء ليتعفنوا في زوايا الصفقات الكبرى.

فكرتين عن“المعتقلون السوريون في لبنان: شرارة جديدة في علاقة مأزومة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *