في تصريح عابر على قناة “الجزيرة مباشر”، أدلى المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية نور الدين البابا بتعليق لافت: “أصل سكان السويداء هم العشائر البدوية، أما الدروز نزحوا من لبنان في القرن الثامن عشر”.
هي جملة تبدو، للوهلة الأولى، توصيفا تاريخيا محايدا، لكن عند تفكيك بنيتها الخطابية وسياقها السياسي، تكتسب طابعا تمييزيا وانزياحا مقصودا في السردية الوطنية.
التاريخ بوصفه أداة هيمنة
إن اللغة السياسية لا تُستخدم فقط لنقل الوقائع، بل لتشكيلها ضمن بنى السلطة، وفي السياق السوري، فإن إقحام وزارة الداخلية في سردية تاريخية حول أصول مكون اجتماعي لا يمكن أن يُفهم خارج أطر هندسة الانتماء، ليس من شأن وزارة أمنية أن تعيد رسم الخريطة الديموغرافية أو تختزل قرونا من التفاعل الاجتماعي ضمن جملة واحدة.
ما يلفت في تصريح البابا ليس فقط ما قاله، بل توقيته ومصدره، حيث يأتي التصريح وسط توتر متصاعد بين سكان جبل العرب من بني معروف (الموحدين الدروز) والعشائر في السويداء، وفي ظل مطالبات محلية بإصلاحات سياسية واقتصادية وتنديد بسطوة الميليشيات، هنا يتحول التاريخ إلى أداة نزع شرعية ضمنية؛ فإذا كان بني معروف “نازحين”، فوجودهم السياسي والاجتماعي في السويداء يصبح مشروطا، بل قابلا للتفاوض.
مقاربة انتقائية للماضي
تحمل الوثائق التاريخية ما يناقض التبسيط الرسمي… نعم، تُظهر السجلات أن أولى الهجرات لبني معروف إلى حوران بدأت عام 1685، غير أن هذه الهجرات لم تكن عمليات استعمارية أو استيطانية بل استجابات لتغيرات إقليمية، سياسية وطائفية، أجبرت أبناء هذه الشريحة الاجتماعية في جبل لبنان على البحث عن ملاذات جديدة، خلال قرنين، أصبح جبل العرب مركزا رئيسيا للطائفة، لا بفعل الغلبة العددية فقط، بل عبر شبكة معقدة من التحالفات والمقاومات المحلية.
إن وصفهم بـ”النازحين” لا ينطوي على سرد زمني بريء، بل يُعيد إنتاج سرديات التمايز لصالح خطاب سلطوي يسعى لإعادة ترتيب الذاكرة الجماعية وفق أولويات أمنية.
ازدواجية في معيار “الأصالة“
اللافت في التصريح الرسمي أنه يُرسّخ مفهوما ثنائيا للأصالة: العشائر البدوية “أصلية”، وبنو معروف “وافدون”، ولكن هذا التصنيف يتجاهل تاريخ التنقل الإقليمي الذي ساد منطقة حوران وجبل العرب، فالعشائر نفسها، بحكم طبيعة حياتها الرعوية، مارست التنقل وقطنت أجزاءً من الأردن والبادية قبل استقرارها في السويداء، فكيف تصبح الحركة البدوية أصالة، والهجرة المنظمة للهرب من الاضطهاد اللبناني حالة طارئة؟
إن ازدواجية المعايير هذه ليست مسألة لغوية فحسب، بل امتداد لأيديولوجيا إقصائية تنتقي من التاريخ ما يعزز سيطرة المركز.
ما وراء التصريح: السلطة وإعادة إنتاج الطاعة
يعكس هذا النوع من التصريحات محاولة من الدولة السورية لإعادة ترسيم حدود الانتماء والشرعية، فغالبا ما تستخدم الأنظمة السلطوية مفردات الهوية لتبرير الإقصاء أو القمع، وحين يقول مسؤول أمني إن طائفة ما “وافدة”، فهو لا يصف؛ بل يُحذّر، يُمهّد، وربما يُبرر.
هذه ليست سابقة في التاريخ السوري، فقد جُرّدت مناطق كاملة من هويتها عبر سياسات التعريب والتجنيس الانتقائي ما بين 1961 و 1962، كما في الحسكة والقامشلي، حيث تم التعامل مع الكرد بوصفهم “طارئين” رغم وجودهم منذ قرون، النموذج ذاته يُستعاد اليوم مع بني معروف.
الدروز والذاكرة المقاومة
لم يكن حضور الدروز في جبل العرب محض استيطان، بل تأسس على أفعال مقاومة واضحة ضد السلطة المركزية، بدءا من الثورة على إبراهيم باشا، مرورا بثورة سلطان باشا الأطرش ضد الفرنسيين، وليس انتهاء بالمواقف الرافضة للزج بأبناء الطائفة في النزاعات الداخلية منذ عام 2011.
بهذا المعنى، فإن تصريح وزارة الداخلية لا يُعيد فقط تعريف تاريخ الدروز، بل يُعيد تأويل تمردهم، فإذا كان أصلهم ليس من هنا، فإن احتجاجهم يفقد مبرره الجغرافي والأخلاقي، فتصريحاته محاولة لتجريدهم من شرعية الرفض، وإعادة تعريفهم بوصفهم طارئين على المشهد السياسي.
الحاجة إلى تفكيك سرديات الدولة
يُظهر هذا الحدث مرة أخرى ضرورة مساءلة الخطاب الرسمي السوري، لا عبر التصعيد أو التجييش، بل بتفكيك لغته وتحليل دوافعه، فما يُطرح كسردية تاريخية غالبا ما يكون امتدادًا لسياسة أمنية تبحث عن صيغة جديدة للضبط والسيطرة.
تاريخ الدروز، بكل تشعباته، ليس معزولا عن السياق الوطني، بل جزء من تركيبته الأكثر تعقيد، لكن السلطة لا يهمها التعدد بقدر “إدارة التعدد” بما يضمن الطاعة، والتصريحات الأخيرة ليست إلا فصلا جديدا من هذا الترتيب السلطوي.

السلطة لا تنسى ولا تغفر
في نظام يتغذى على الطاعة ويُعيد تشكيل المجتمع عبر أدوات الأمن والذاكرة، فإن مجرد التذكير بأن فئة ما “وافدة” يكفي لنزع حقها في التعبير، بل في التواجد.
تصريح نور الدين البابا ليس زلة لسان، بل هو إعادة إنتاج دقيقة للمنظور الرسمي الذي يرى في كل انتماء مستقل تهديدا يجب تدجينه.
اليوم، تُصاغ قصة الدروز بلغة تُخضع الماضي لمعادلات الأمن وتختزل قرونا من الاندماج في جملة واحدة.
يبقى الرهان على تفكيك هذا الخطاب، لا من باب الهوية، بل من أجل وطن يُعرّف أهله من خلال نضالهم المشترك، لا من خلال دفتر الحضور العثماني أو دفتر الشروط السلطوي.