الترحيل القسري من السويداء: تصعيد خفي يرسم حدودا جديدة

في قلب صيف مشتعل سياسيا وعسكريا، شهدت محافظة السويداء في يوليو 2025 موجة تهجير قسري صامتة، طالت عشرات الآلاف من السكان، في مقدمتهم العشائر البدوية، تحت غطاء اتفاق وقف إطلاق نار برعاية أمريكية.

لم يكن هذا الترحيل مجرد حدث إنساني مأساوي آخر يُضاف إلى سجل الصراع السوري، بل لحظة مليئة بالدلالات الجيوسياسية، تُعيد رسم خرائط السيطرة والهويات في المشرق السوري.

تفكيك السكّان: من المعركة إلى إعادة التشكيل

رغم أن وسائل الإعلام تناولت الحدث في إطاره الإنساني المباشر، فإن قراءته تفرض طرح أسئلة أكثر عمقاً؛ فمن قرّر الترحيل؟ ولماذا الآن؟ ومن المستفيد من فراغ ديموغرافي بهذا الحجم؟ الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تؤكد نزوح نحو 93,400 شخص داخل السويداء منذ 12 يوليو، وتهجير ما مجموعه 128,571 شخصا حتى نهاية الشهر، بينهم مئات العائلات البدوية التي أُجليت قسرا.

ما يحدث في السويداء ليس سوى إعادة تموضع اجتماعي داخل إطار تسوية إقليمية كبرى، حيث تسعى القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى تثبيت معادلات أمنية جديدة في جنوب سوريا، على مشارف الجولان وحدود الأردن، لكن ثمن هذه المعادلة يُدفع من لحم السكان وهوياتهم.

اتفاقات الهُدَن: آليات ديموغرافية أم سياسية؟

وقف إطلاق النار الذي رعته واشنطن بين فصائل السويداء والمجموعات المسلحة لم يكن إجراء تقنيا لضبط النار، بل أداة لإعادة فرز القوى داخل المحافظة، وضبط تركيبتها السكانية وفق منطق سياسي طويل الأمد، ويبدو أن ترحيل العشائر البدوية تم بعلم، وربما بموافقة ضمنية، من أطراف متعددة ترى في البدو عنصرا غير قابل للاندماج في “النظام الجديد” المرسوم للسويداء.

التركيبة السكانية في المحافظة كانت دوما خليطا متعددا ويملك علاقات جيدة في الأوقات العادية، لكنه يصبح هشا في لحظات الانهيار السياسي، أو تبديل المعطيات داخل مركز القرار في دمشق، والنزاعات الأخيرة أطلقت عملية تطهير ديموغرافي ناعم، تحوّل فيها البدو إلى نقطة ارتكاز، لا سيما في مناطق كحي المقوس، والبرّاية، والشهباء.

البعد الطائفي والسياسي: إخراج البدو من معادلة السيطرة

البدو في سوريا، كما في العراق والأردن، يشكلون عقدة جغرافية متحركة، وهامشا غير قابل للضبط ضمن الدولة المركزية، وفي السويداء، كانوا تاريخيا بموقع الوسيط بين البادية والجبل، وبين الدولة والطائفة، لكن الحرب حولتهم إلى عبء سياسي، يتم تحميله لكل معادلات العنف والفوضى.

ترحيل البدو لا يخلو من دلالات طائفية أيضا، حيث يُراد له أن يرسّخ صورة السويداء كإقليم درزي خالص، في لحظة يُعاد فيها رسم الهويات الطائفية في سوريا كحدود سياسية، خصوصا بعد مجازر الساحل، ونتيجة أيضا لهوية الدولة الجديدة التي تتخذ شكلا دينيا واضحا، وهنا يظهر الخطر الحقيقي؛ ليس في عدد المُهجّرين فقط، بل في معنى التهجير كسابقة قانونية واجتماعية ترسم ملامح سوريا “المفيدة” الجديدة.

الأثر الجيوسياسي: إعادة تموضع أمريكي إسرائيلي

بعيدا عن الحجة الإنسانية، فإن المشهد يؤشر إلى إعادة تنظيم للمجال الجغرافي الجنوبي لسوريا، بما يتقاطع مع مصالح إسرائيل في تقليص أي تهديد بالقرب من الجولان، والترحيل يتقاطع زمنيا مع تقارير غربية عن تعزيز التنسيق الأمريكي الإسرائيلي في منطقة حوض اليرموك، ونشر مستشارين أمنيين في مواقع قريبة من درعا.

من هذا المنظور، لا يمكن فصل ما جرى في السويداء عن استراتيجية احتواء تسعى واشنطن وتل أبيب إلى بلورتها عبر حزام اجتماعي جديد، أقل قابلية للاختراق من قبل شبكات مقاومة أو مناهضة عموما لـ”إسرائيل”، والبدو، بما يحملونه من روابط قبلية وعابرة للحدود، يُنظر إليهم كحلقة رخوة في هذا السياق.

التحوّلات الناعمة: من النزوح إلى التغيير الديموغرافي

ثمة ما هو أعمق من مجرد التهجير المؤقت، حيث تشير بعض التقارير إلى وجود سيناريوهات لتغيير دائم في البنية الاجتماعية للسويداء، وهذا الأمر يشمل سياسات إسكان جديدة، وربما تخصيص أراضٍ للنازحين الداخليين من مناطق، ما يُحوّل النزوح من حالة طارئة إلى أداة لإعادة هندسة المجتمع.

تجربة سوريا منذ 2011 أكدت أن كل نزوح يفتح بابا لتحولات سياسية لاحقة، من دوما إلى حلب، ومن القصير إلى درعا، والآن، تدخل السويداء إلى نفس الحلقة، ولكن تحت غطاء أمريكي هذه المرة، ما يضفي شرعية دولية زائفة على ما هو في جوهره مشروع تفتيت داخلي.

شرق المتوسط: السويداء كنقطة تقاطع

في الخارطة الكبرى للشرق الأوسط، ليست السويداء سوى حلقة في لعبة إعادة تموضع إقليمي، من البحر الأحمر حتى قبرص، وترحيل البدو يفتح ممرات أمنية محتملة باتجاه الأردن و”إسرائيل”، ويخفّف من ضغط اللاجئين نحو الشمال، ما يُرضي أنقرة ويمنح “تل أبيب” هامش مناورة.

بل إن بعض التحليلات ترى أن واشنطن تُجرّب في السويداء نموذجا “مصغرا” لإدارة مناطق ما بعد الصراع، دون الحاجة لتدخل عسكري مباشر، بل عبر أدوات ديموغرافية وتفاهمات محلية تعيد ضبط السكان بما يتناسب مع الأمن الإقليمي.

التهجير كلغة جديدة للسياسة

ترحيل العشائر البدوية من السويداء ليس حادثا معزولا، بل نقطة تحوّل في اللغة الجديدة التي يُدار بها الصراع في سوريا، فلغة السكان، والهويات، والجغرافيا المجزّأة هو في نهاية الأمر تعبير عن انتقال المرحلة من الحرب الساخنة إلى إدارة التناقضات الاجتماعية كأدوات سيطرة.

إنها اللحظة التي تتحوّل فيها الجغرافيا إلى سياسة، ويُصبح فيها كل تحرّك بشري على الأرض جزءا من لوحة إقليمية أوسع، وهنا تماما تكمن خطورة ما جرى في السويداء؛ ليس في عدد المُرحّلين، بل في ما يعنيه رحيلهم للمستقبل السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *