في مشهد اقتصادي يفتقد إلى التوازن، تبدو السوق السورية في آب 2025 أقرب إلى مرآة مشروخة تعكس اضطرابا نقدياً ومعيشيا متزايدا، حيث تزامن تثبيت السعر الرسمي لصرف الدولار عند 11,000 ليرة مع تسارع تضخم أسعار السلع الأساسية، ما فاقم من هشاشة القوة الشرائية لمعظم المواطنين.
تقلبات نقدية تُربك المؤشرات
رغم إعلان مصرف سورية المركزي في 11 أغسطس 2025 تثبيت سعر الدولار عند 11,000 ليرة للشراء و11,110 ليرة للبيع، فإن الأسواق الموازية كانت تنبض بإيقاع مختلف، متجاوزة الخطاب الرسمي نحو واقع أكثر تعقيدا وتقلّبا، ففي دمشق وحلب، وهما المركزان التجاريان الأهم في البلاد، تراوح السعر غير الرسمي للدولار الاميركي بين 10,350 و10,525 ليرة، بينما ارتفع في مناطق شمال شرق البلاد، لا سيما الحسكة، ليبلغ مستويات قاربت 10,875 ليرة.
هذا التفاوت لم يكن مجرد هامش تقني بين سعرين، بل عبّر عن شبكة من التوترات البنيوية حيث تفاوت في العرض النقدي بين المناطق، وفجوة في التدفقات التجارية، وتباين في درجة السيطرة الأمنية والإدارية بين مناطق النفوذ المختلفة.
هذا الانفصال بين السعر الرسمي والسعر الواقعي تجسّد مباشرة كأداة تسعير غير معلنة، تتفاعل معها سلسلة التوريد والتسعير اليومي، فالأسعار لا تُبنى وفق كلفة الإنتاج فحسب، بل وفق توقعات الدولار في اليوم التالي، ما يرسّخ حالة من انعدام اليقين، ويتحول إلى محرك رئيسي للتضخم الزاحف الذي يلتهم دخول المواطنين دون هوادة.
الغذاء: المرآة الأوضح لانهيار القيمة
لعل أبرز تجليات هذا التدهور النقدي كانت في أسعار المواد الغذائية، فارتفع سعر كيلو الفروج إلى 16,000 ليرة، ولحم الغنم إلى 110,000 ليرة، مع زيادات في أسعار الخضار والفواكه تراوحت بين 10 و15%، ولم تكن هذه الزيادات مفاجئة بقدر ما كانت تعبيرا عن صدمة سعر الصرف، الذي أصبح محركا يومياً لتقلب الأسعار.
إن ارتفاع كلفة النقل، الأعلاف، وفقدان السيطرة على الحدود، بما في ذلك التهريب من تركيا، ساهمت في تشويه السوق، وهذه العوامل مجتمعة أفرزت بيئة تسعير فوضوية، زادت من حدّة التفاوت بين المحافظات، وأضعفت من قدرة الجهات الرقابية على ضبط الأسواق.
العودة إلى التضخم: من الانخفاض إلى الارتداد
من المفارقات الملفتة أن بداية 2025 كانت قد شهدت مؤشرات إيجابية، حيث انخفض مؤشر أسعار الغذاء بنسبة 21.7% على أساس سنوي، وتراجعت أسعار اللحوم والخضار والدهون بنسب وصلت إلى 17%. غير أن تلك المكاسب تبدّدت مع اقتراب الصيف، حيث عادت الأسعار إلى منحنى تصاعدي واضح بحلول أغسطس.
ويكشف هذا التحول الحاد كيف أنّ أي انفراج اقتصادي يظل هشًّا أمام تقلبات سعر الصرف وغياب أدوات ضبط فعّالة للأسواق، ما يجعل المكتسبات قصيرة الأجل عرضة للتلاشي السريع.
الديناميات الخفية للسوق السورية
ليست السوق السورية رهينة عامل واحد، بل هي نتاج شبكة معقّدة من التداخلات، فإن أسعار صرف متأرجحة، وبنية استيراد مختلة، ودعم حكومي محدود، وتضخم مفرط في ظل غياب أدوات السياسة النقدية الفعالة، ومع غياب أفق لحلول اقتصادية مستدامة، تتراجع الثقة يوما بعد يوم.
الأسواق باتت تتصرف وفق منطق “اليومي”، حيث لا تخزين ولا توقعات، بل تسعير فوري يتبع حركة الدولار، في بيئة يغيب عنها الاستقرار المؤسسي، ويُحجم فيها المستثمر المحلي عن أي توسع إنتاجي، مخافة تآكل رأس المال.
مفارقات في التوزيع الجغرافي للأسعار
في دمشق، العاصمة المثقلة بتداخل السلطة والطلب، كانت الأسعار أقل نسبياً من نظيراتها في الحسكة، رغم أن الأخيرة تُفترض أن تكون أقرب لمصادر الإنتاج الزراعي والحيواني، وهذا التفاوت يكشف عن اختلالات لوجستية، وأخرى مرتبطة بتكلفة النقل والأمن والمنافسة، وكذلك بالأثر العكسي للتهريب الذي يُربك سلاسل التوريد.
المواطن بين فكيّ الأسعار والدخل
من المفارقات الملفتة أن بداية 2025 حملت إشارات إلى تحسن نسبي في المؤشرات الاقتصادية، إذ تراجع مؤشر أسعار الغذاء بنسبة 21.7% على أساس سنوي، كما انخفضت أسعار اللحوم والخضار والدهون بنسب وصلت إلى 17%.
هذه المكاسب لم تترسخ، فعلى الرغم من إقرار الحكومة زيادة في الرواتب بنسبة 200%، فإن أثرها ظل شكليا، فالموظف الذي كان يتقاضى 200 ألف ليرة شهريا أصبح راتبه 600 ألف ليرة، لكن في المقابل ارتفعت أسعار السلع الأساسية بما يعادل 250 إلى 300%، ما يعني أن القدرة الشرائية لم تتحسن بل تراجعت نسبياً.
التهم التضخم هذه الزيادة بالكامل، لتتحول إلى مجرد تعديل شكلي كشف عمق الهوة بين الأجور وتكاليف المعيشة، وهو ما جعل الأسعار تعود إلى منحنى تصاعدي حاد بحلول أغسطس، فيما بقيت الأجور عاجزة عن مجاراة الواقع الفعلي للأسواق.
مقترحات للإصلاح الممكن
في سياق يشوبه انسداد الأفق السياسي والاقتصادي، تبقى بعض المقاربات ممكنة على المدى القصير:
- تفعيل رقابة حقيقية على أسواق الجملة بحيث يُرصد التغير في الأسعار يوميا، وتُقيَّم الفروقات بين المحافظات.
- إعادة النظر في سياسات الاستيراد: خصوصا للمواد الأساسية، عبر تسهيلات جمركية وترتيبات تعاقدية شفافة.
- توسيع مظلة الدعم الذكي الذي يستهدف الفئات الأشد تضرراً، بدلاً من الدعم العشوائي غير الفعّال.
- تنشيط الإنتاج المحلي خصوصا الزراعة والصناعات الغذائية الصغيرة، من خلال منح ائتمانية مدروسة.
بين الانكماش والصمود
أغسطس 2025 في سوريا كان شهرا صامتا من حيث القرارات، صاخبا من حيث الأثر، إذ برزت السوق بوصفها ميدانا لصراع غير متكافئ بين قوة الدولار وانكماش الدخل، فلا حلول سحرية، إنما مرحلة تتطلب إدارة دقيقة لازمة عميقة، تحتاج أكثر من مجرد تثبيت سعر صرف، بل إعادة تعريف لأسس السيادة الاقتصادية في بلد يعيش على حافة الانكشاف الغذائي.
في لغة الاقتصاد كما في السياسة، الثقة لا تُعلن، بل تُبنى. وسوريا بحاجة ماسة اليوم إلى ترميم هذه الثقة، من الليرة حتى رغيف الخبز.