الجغرافيا ليست صامتة، فهي تُسجّل الحروب كما تسجّل الأنهار مساراتها في الصخور، وما يجري في سوريا منذ مطلع عام 2025 ليس مجرد نزوح، بل تحطيم لجغرافيا مأهولة، وإعادة نحتها بأدوات الدم والطرد القسري.
ثلاثة مشاهد من دمشق، والساحل، والسويداءعلى رقعة واحدة، لكن القصة أوسع، فهي سردية أمة تُدفع نحو مصير يشبه ما حدث في البوسنة عام 1992، أو كوسوفو في نهاية التسعينيات، أو حتى قبرص بعد 1974، وكلها أمثلة تاريخية تكشف أنّ التغيير الديموغرافي لا يزول سريعا، بل يرسم خرائط تستمر لعقود وربما لقرون.
دمشق: عاصمة تُفرَّغ من قلوبها
ما جرى في دمشق وضواحيها من تهجير آلاف العلويين ومصادرة منازلهم على يد أجهزة مرتبطة بالأمن العام الجديد يُعيد للأذهان مشهد سراييفو في التسعينيات.
في البوسنة، لم يكن التهجير مجرد حركة سكان، بل استراتيجية واضحة تريد تطهير المدن من خليطها التاريخي لتصبح أحادية القطب، وتسير دمشق اليوم على نفس النهج ذاته، فالأحياء التي كانت فسيفساء بين الطوائف تُعاد هندستها حيث طائفة تُطرد، وأخرى تُوطّن.
هذا يعني أنّ العاصمة، التي كانت رمز التعايش تتحول إلى مركز سياسي لطرف واحد فقط، وكما حدث في سراييفو، فإن هذا التطهير الديموغرافي سيترك ندبة على الخريطة لأجيال مقبلة.
الساحل: البحر يُعاد رسمه
في الساحل السوري، مجازر بانياس وما حولها، حيث قُتل المئات وهُجّر عشرات الآلاف من العلويين، تذكّرنا بما جرى في كوسوفو عام 1999.
في كوسوفو، كان الهدف طرد الألبان من أرضهم لإعادة تشكيل السيطرة الصربية على الإقليم، وفي النهاية، خلّف ذلك نزاعا مفتوحا لم يُحلّ حتى اليوم.
الساحل السوري يعيش نفس التجربة، فالمجتمعات المحلية (الطائفة) التي ارتبط وجودها بالبحر تُقتلع من قراها، وهذا لا يعني فقدان منازل فقط، بل خسارة العلاقة التاريخية بين جماعة بشرية ومساحتها الجغرافية، فالبحر المتوسط لم يعد نافذة لهم، بل يتحول إلى حالة فقدٍ قاسية.
كما في كوسوفو، حيث الحدود الديموغرافية أعادت رسم النفوذ الدولي، فإن الساحل السوري يتحول إلى مسرح لتنافس إقليمي فهل يظل في سكانه، أم يفتح لآخرين؟
السويداء: الجنوب الممزّق
في السويداء، حيث نزح 128 ألف مدني وسط صراع دموي بين سكان جبل العرب والبدو، وهنا يمكن استحضار تجربة قبرص.
بعد الغزو التركي عام 1974، أُجبر القبارصة اليونانيون على النزوح جنوبا، والأتراك إلى الشمال، ومنذ ذلك الحين، تعيش قبرص على خريطة منقسمة إلى دولتين بحكم الأمر الواقع، رغم اعتراف العالم بواحدة فقط.
السويداء اليوم تُهدَّد بالمصير ذاته فالجنوب سوري موزّع بين جماعات، كل منها تبحث عن ملاذ جغرافي خاص بها، والحكومة التي تدخلت لترحيل 1,500 عائلة بدوية بحجة “التسوية” لم تُنهِ النزاع، بل رسّخت فكرة أن السلطة نفسها طرف في إعادة توزيع السكان.
رسم بياني تفاعلي
المخاطر: سوريا كفسيفساء متحطّمة
التغيير الديموغرافي القسري لا يُنتج فقط كوارث إنسانية آنية، بل يخلق خرائط جديدة أشد قسوة.
- تشظي وطني شبيه بالبوسنة
كما تحولت البوسنة إلى دولة مقسمة بين كروات وصرب وبوسنيين، ربما تصبح سوريا كيانا جغرافيا مشطورا، حيث دمشق لأغلبية جديدة، والساحل لأخرى، الجنوب لثالثة. - نزاعات مجمّدة شبيهة بقبرص
حتى لو توقف القتال، فإن النزوح القسري يخلق خطوط تماس طويلة الأمد، فالأحياء والقرى لن تعود كما كانت، وستبقى الحدود غير مرئية بين الطوائف كجدار نفسي لا ينكسر. - مساحة للتدخل الإقليمي مثل كوسوفو
كما تحولت كوسوفو إلى ساحة نفوذ أوروبي-أميركي مقابل روسيا، فإن سوريا الجديدة تصبح رقعة تنافس تركي- إسرائيلي – عربي، كل يبحث عن موطئ قدم في فراغ جغرافي أعيد تشكيله. - تكرار النمط الفلسطيني
كما حدث في فلسطين بعد 1948 و1967، فإن التهجير لا يمحو السكان، بل يحولهم إلى لاجئين دائمين، وسيبقون خارج الخريطة لكن حاضرون في الذاكرة، ما يفتح صراعا طويل الأمد حول “حق العودة”.
خاتمة: الخرائط لا تُشفى
الجغرافيا لا تنسى وكل تهجير يترك خطا على الخريطة، وكل خط يصبح حدودا محتملة في المستقبل، وفي البوسنة، ما زالت الخطوط قائمة رغم مرور ثلاثة عقود، وفي قبرص بقي الصراع ولم ينته منذ نصف قرن، أما في فلسطين فالصراع حي منذ أكثر من سبعين عاما.
وسوريا؟
إنها تسير على الطريق ذاته؛ خريطة تعاد كتابتها بالدم، لكن من دون ضمان أن يُكتب لها استقرار، فحين تتغير الديموغرافيا بالقوة، فإن الجغرافيا تصبح جرحا مفتوحا، وسوريا اليوم ليست سوى جرح واسع، لا يُعرف متى يلتئم، ولا بأي شكل سيبقى.