في بلد يعاني من انكماش اقتصادي حاد، وتضخم يلتهم ما تبقى من الدخل الحقيقي، تبدو أخبار الاستثمار التي تصدرها الحكومة السورية بمثابة جرعة أمل لمن يبحث عن بارقة في الأفق الرمادي، لكن، وكما هي الحال في العديد من الدول التي تمر بمراحل انتقالية أو أزمات مستدامة، فإن الخطاب الرسمي حول “الفرص الاستثمارية” كثيرا ما يكون أداة سياسية أكثر منه رؤية اقتصادية واقعية، والمفارقة أن حجم هذه الإعلانات لا يعكس بأي حال قدرة الاقتصاد السوري الحالية على استيعابها أو تنفيذها.
التضخم اللفظي: أرقام تفوق الواقع
منذ بداية عام 2025، أعلنت الحكومة السورية عن مشاريع استثمارية ضخمة تزيد قيمتها على 25 مليار دولار، موزّعة على قطاعات مثل الطاقة والعقارات والسياحة والنقل، للوهلة الأولى تبدو هذه الأرقام واعدة، خاصة في بلد يحتاج إلى إعادة بناء اقتصاده، لكن عند النظر إلى حجم الاقتصاد السوري نفسه، تظهر مفارقة لافتة.
فالناتج المحلي الإجمالي للبلاد لا يتجاوز 22 مليار دولار سنويا، بحسب تقديرات مستقلة، ما يعني أن القيمة الإجمالية للاستثمارات المعلنة تفوق ما يُنتجه الاقتصاد بأكمله خلال عام، فما يُعلَن عنه هو مشاريع تفترض وجود اقتصاد أكبر من الواقع بكثير، وكأن هذه الخطط مصمّمة لبلد آخر أو لواقع غير موجود فعليا، ما يثير تساؤلات جدّية حول مدى واقعية هذه الإعلانات وقدرتها على التحول إلى مشاريع ملموسة.

الاستثمار بوصفه إعلان نوايا
يهيمن على الخطاب الاستثماري ما يسمى بـ”مذكرات التفاهم”، وهي صيغ غير ملزمة قانونيا، تتيح للحكومة تسجيل رقم كبير في خانة الإنجازات، دون التزامات تمويلية أو تنفيذية فعلية، فنسبة ضئيلة من هذه المذكرات تنتقل إلى عقود ملزمة، وغالبا ما تُجهض بفعل العقوبات، أو ضعف التمويل، أو افتقار البنية التحتية القانونية.
هذه الممارسة لا تقتصر على سوريا فقط، لكنها في السياق السوري تتضخم بفعل حالة الانفصال بين الدولة ككيان دعائي، والواقع الاقتصادي المُثقل بالانكماش والتآكل المؤسسي، فبينما يعلن الإعلام الرسمي عن مشروع طاقة بـ3 مليارات دولار، تقبع مناطق بأكملها في ظلام دامس معظم ساعات اليوم.
حين لا توقف الاستثمارات الانهيار
ربطت الحكومة بين الاستثمار وتحسن مؤشرات المعيشة: فرص عمل، كهرباء، خدمات… لكن المؤشرات الأساسية في 2025 تروي حكاية أخرى.
- التضخم يُقدّر بأكثر من 100%.
- سعر صرف الليرة الرسمي في حدود 11,000 مقابل الدولار.
- القدرة الشرائية في أدنى مستوياتها منذ بداية النزاع.
- الكهرباء لا تزال مقننة رغم استيراد الغاز من أذربيجان.
هذا التناقض يُظهر فجوة بين المشاريع المعلنة وأثرها الفعلي على حياة السوريين، ففي الوقت الذي تُقدَّم فيه استثمارات بمليارات الدولارات كمخرج من الأزمة، تعجز الدولة عن ضبط سوق الدواء أو دعم أسعار الخبز.
اختلال الأولويات: من العقارات الفاخرة إلى الزراعة المنسية
القطاعات المستهدفة في الاستثمار لا تعكس ضرورات المجتمع السوري، فالمشاريع تميل إلى العقارات الفاخرة، السياحة، والبنى التحتية الاستعراضية، في حين تتراجع الزراعة والصناعة الخفيفة، وهما مصدر الدخل الرئيسي لغالبية السكان.
المفارقة هنا مزدوجة؛ فالدولة تبحث عن رؤوس أموال أجنبية لتمويل مجمعات سياحية وفنادق خمس نجوم، بينما يعاني الريف من شح الأسمدة والبذار، والمصانع الصغيرة من انقطاع الكهرباء وغياب التمويل.
إصلاح قانوني دون بيئة جاذبة
حتى على صعيد البنية القانونية، أُصدر مرسوم الاستثمار الجديد (114/2025) مرفقا بحملة ترويجية، باعتباره خطوة لتحسين مناخ الأعمال، لكن هذه القوانين الجديدة تصطدم بواقع بيروقراطي مشلول، وغياب للشفافية، وصعوبة في تحويل الأموال أو إعادة الأرباح.
فما قيمة الحوافز القانونية إذا كان المستثمر لا يستطيع ضمان ملكيته، أو تحويل الأرباح؟ وما جدوى تقارير التنافسية إذا كانت البيئة الأمنية والسياسية تطغى على أي تحليل اقتصادي عقلاني؟
الانفصال بين الخطاب والواقع: ظاهرة متكررة
سوريا ليست استثناءً في هذا النوع من الانفصال بين الرغبة في جذب الاستثمار والقدرة الفعلية على استيعابه، لكن ما يميز الحالة السورية هو استمرار الخطاب الدعائي رغم انكشافه الكامل، فالأرقام تزداد، والمشاريع تتكرر، بينما الواقع يراوح مكانه أو يتراجع.
هذا النوع من الخطاب يؤدي إلى تآكل الثقة، ليس فقط من المستثمرين الخارجيين، بل حتى من المواطنين المحليين الذين باتوا يعتبرون كل إعلان حكومي عن “فرصة استثمارية” مؤشرا ساخرا على العجز، لا أملا بالنمو.
ماذا يعني ذلك للمستقبل؟
الاستثمار الحقيقي يحتاج إلى ما هو أبعد من التشريعات، ابتداء من بيئة مؤسساتية شفافة، وقضاء مستقل، وسوق مالية مرنة، واستقرار سياسي فعلي، وهذه عناصر لم تتشكل بعد في المشهد السوري، بل تتراجع بفعل الأزمات المتراكمة.
الأخطر من ذلك أن الإصرار على تضخيم أرقام الاستثمار دون نتائج ملموسة، يعمّق فجوة التمثيل بين الدولة والمجتمع، ويحوّل الخطاب الاقتصادي إلى ممارسة رمزية لا علاقة لها بالممكنات أو الاحتياجات.
الطريق إلى الاقتصاد الحقيقي
إذا كانت غاية الاستثمار هي تحسين حياة الناس، فإن معيار النجاح لا يكون بعدد المؤتمرات أو ضخامة الأرقام المعلنة، بل بمدى انعكاس هذه الاستثمارات على البطالة، الأمن الغذائي، الاستقرار النقدي، والعدالة في توزيع الموارد.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس قائمة جديدة من المشاريع المليارية، بل مشروعا وطنيا يعيد ربط الخطاب الاقتصادي بحاجات المجتمع، ويمنح الأولوية لما هو ضروري قبل ما هو استعراضي، عندها فقط، يمكن للكلام عن الاستثمار أن يتحول من وهمٍ إلى أداة تغيير حقيقية.