حين وُقّع اتفاق فضّ الاشتباك عام 1974، لم يكن مجرد وثيقة عسكرية تُحدّد مواقع انتشار على سفوح الجولان، فجوهره تعبير عن توازن إقليمي دقيق تشكّل عقب حرب تشرين، وعن إرادة دولية في فرض نظام ضبط للصراع يحول دون انفلات الجبهة السورية – “الإسرائيلية”.
كان الاتفاق أشبه بـ”هندسة سياسية” رسمتها دبلوماسية هنري كيسنجر في سياق الحرب الباردة، حيث تداخلت حسابات الجغرافيا مع معادلات القوى الكبرى، فتجاوز الاتفاق بعده العسكري ليصبح رمزا لمرحلة كاملة من السياسة الإقليمية ظلّت توازناتها حاضرة لعقود رغم الهزّات المتتالية من لبنان إلى مدريد.
خمسون عاما مضت، وما يزال خط فضّ الاشتباك حاضرا في الذاكرة السورية كرمز لذاك التوازن، والحديث عنه اليوم يجري في سياق مختلف جذريا؛ لم يعد هناك ميزان قوى يُذكَر، ولا دور إقليمي فاعل لسوريا، ولا جبهة مضبوطة تردع الاختراقات “الإسرائيلية”، فـ”تل أبيب” تتحرك بحرية في الأجواء السورية، وتستهدف البنية العسكرية بلا مقاومة تُذكر، فيما تفكك الجيش السوري وحلّت مكانه تشكيلات متناثرة مرتهنة لتحالفات خارجية، وفي ظل هذه المعطيات، يبدو الحديث عن العودة إلى الاتفاق أقرب إلى عبث سياسي، وتمسّك بظلّ مفهوم انتهت شروط وجوده، وإحياء لذكرى فقدت أي قدرة على إنتاج توازن جديد.
التوازن الذي كان
في سنواته الأولى، لم يُنظر إلى اتفاق 1974 كخط عسكري فاصل وحسب، بل كإطار أوسع أعاد تعريف موقع سوريا في الإقليم، وأعطى دمشق فرصة لتثبيت نفسها كطرف معترف به في معادلة الأمن الإقليمي، ولو على قاعدة “اللاحرب واللاسلم”، فالاتفاق لم ينهِ الصراع، لكنه حوّله من مواجهة مفتوحة إلى علاقة مضبوطة تسمح لكل طرف بالتحرك خارج الجبهة المباشرة، وبالنسبة لسوريا، وفّر هذا الوضع مساحة للعمل السياسي والعسكري في جبهات بديلة، أبرزها لبنان الذي تحوّل لاحقًا إلى الساحة الأكثر اشتعالا بين دمشق وتل أبيب.
ولعل أهم ما ميز الاتفاق أنه كان أداة لإدارة التناقضات لا لتسويتها، فهو أبقى على حالة الصراع كخيار دائم، لكنه في الوقت نفسه ضبط وتيرتها بحيث لا تتجاوز عتبة الحرب الشاملة، وحتى عندما تكبّدت سوريا خسائر قاسية في معارك البقاع عام 1982، استمر الاتفاق كإطار “إجرائي” لتنظيم الاشتباك، فجوهره لم يكن التفوق العسكري بل القبول المتبادل بحدود الممكن، وهو ما جعل بقاءه ضروريا لكل من دمشق وتل أبيب في تلك المرحلة، فكان بمثابة اعتراف ضمني بأن الصراع لن يُحسم عسكريا، وأن الحفاظ على استقرار خط الجولان أفضل للطرفين من المغامرة بكسره.
من الجغرافيا إلى العدم
لكن المعادلة بدأت بالتحوّل جذريا منذ عام 2011، حين دخلت سوريا في دوامة حرب داخلية أنهكت مؤسساتها، بما فيها الجيش الذي كان يُعَدّ أحد أعمدة التوازن الإقليمي، ومع أن الجيش السوري استمر في أداء دوره خلال العقد الأول من الأزمة، لكنه كان يتعامل مع تحولات سياسية متسارعة، ومع نهاية عام 2024 حمل سقوط النظام السياسي حذف الجيش من المعادلة السورية الداخلية والإقليمية، وفي المقابل تحوّلت الضربات الإسرائيلية من استثناءات محدودة إلى ممارسة اعتيادية.
كان اختراق الأجواء السورية في عقود سابقة يُعتبر حدثا صادما يُدوّن في بيانات الأمم المتحدة، وأصبحت الغارات بعد 2024 جزءا من الروتين العسكري الإسرائيلي، تستهدف البنية التحتية الدفاعية ومراكز القيادة ومخازن السلاح على امتداد الجغرافيا السورية، من محيط دمشق إلى العمق الشرقي، دون أن تواجه بردّ فعلي، ومع كل جولة قصف جديدة، كانت رمزية خط فضّ الاشتباك تتآكل أكثر فأكثر، حتى غدا مجرد خط على الورق، بلا وظيفة واقعية.
المفارقة التاريخية أن اللحظة التي يُطرح الحديث عن “العودة إلى الاتفاق” في الخطاب السياسي السوري، فإن الأرضية التي سمحت بوجوده زالت بالكامل، فهو ليس نصا قانونيا معزولا إنما انعكاس لتوازن سياسي–عسكري متكافئ نسبيا، فمع غياب الجيش السوري كقوة قادرة على الإمساك بالجبهة، ومع استفراد “إسرائيل” بقرار الحرب والردع، يصبح استدعاء الاتفاق أقرب إلى محاولة إحياء ذكرى مدفونة في أرشيف الأمم المتحدة، لا إلى استعادة إطار صالح لإدارة الصراع.
عبثية الخطاب
الدعوة السورية اليوم للتمسك باتفاق فضّ الاشتباك تبدو خالية من أي مضمون استراتيجي، فهو كان قائما على معادلة “اللاحرب واللاسلم”، وهي صيغة تحتاج إلى طرفين قادرين على ضبط جبهتهما، أما الآن، فـ”إسرائيل” تنفّذ استراتيجيتها في العمق السوري دون أن تُكترث بالخطوط الأممية، ودمشق لا تملك أدوات الردع أو القدرة على إعادة إنتاج توازن جديد، فخطاب العودة إلى الاتفاق نوع من العبث السياسي، يعبّر عن غياب الرؤية الاستراتيجية للصراع أكثر من كونه خيارا عملي.
المسألة هنا ليست تقنية أو قانونية؛ فالاتفاق لم يسقط لأن “إسرائيل” انتهكته فحسب، بل لأنه كان مفهوما سياسيا مرتبطا بتوازن إقليمي انتهى، فالمعادلة التي حافظت على خط فضّ الاشتباك لعقود مثلت توازنا بين دمشق وتل أبيب، ورعاية أميركية– سوفياتية، بينما لم يعد هناك اليوم “طرفان متوازيان”، بل طرف واحد يفرض قواعد اللعبة، وطرف آخر يطلب الشرعية عبر القوى الدولية لا عبر موازين القوى الإقليمية.
عبث التمسك بظلّ بلا جسد
استدعاء اتفاق 1974 يبدو أشبه بالتمسّك بظلّ بلا جسد، هو فصل من كتاب قديم وضعه كيسنجر في زمن الحرب الباردة، لكنه لا يصلح لإدارة صراع القرن الحادي والعشرين، ففي غياب التوازن الإقليمي، يصبح خطاب العودة إلى الاتفاق مجرّد تكرار لعبارات محفوظة، فيما الوقائع على الأرض تقول إن “إسرائيل” تعمل بلا قيود، وسوريا فقدت القدرة على الفعل.
إنها العبثية السياسية بعينها؛ التمسك بإطار لم يعد موجودا، ومحاولة بعث توازن انتهى منذ أن تفكك الجيش السوري، وتحوّل الصراع من مواجهة دول إلى ساحات نفوذ متداخلة.