هوية الدولة الملتبسة في سوريا: تحليل خطاب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع

أكثر ما يكشفه خطاب أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي السوري، هو أزمة هوية دولة تتعثر في تعريف نفسها، فهو يرفض الانتماء إلى الإسلام السياسي وتنظيماته، وينأى بنفسه عن القومية العربية وأيديولوجياتها، ويتبرأ من موجة الربيع العربي، لكنه لا يقدّم في المقابل إطارا فكريا أو مشروعا سياسيا متماسكا، فتغدو ملامح سوريا الجديدة كما يرسمها أقرب إلى هوية بالنفي لا بالإثبات، وإلى وعود بالانفتاح والوحدة أكثر مما هي رؤية واضحة المعالم.

هذه الثغرة ليست تفصيلا لغويا، بل انعكاسا لحقيقة أعمق، فالأمم في لحظات الانعطاف التاريخي لا تحتاج إلى نفي الماضي بقدر حاجتها إلى تعريف ما ستكونه، ومن هنا تتضح المعضلة التي يواجهها الرئيس الانتقالي، فيقف في قلب لحظة تصدّع عميق في بنية الدولة، حيث لم يعد سؤال الهوية ترفا فكريا بل شرطا وجوديا لأي مستقبل مستقر.

خطاب النفي أكثر من خطاب الإثبات

يختار أحمد الشرع أن يبني خطابه السياسي على النفي أكثر من الإثبات، فهو يضع مسافة واضحة بين نفسه وبين التيارات الإسلامية بمختلف أطيافها، كما يتجنب أن يُحسب على موجة الربيع العربي، ولا يرى في القوميات أو الأيديولوجيات الكبرى التي عرفتها المنطقة إطارا صالحا للمستقبل، غير أن هذا التبرؤ من الإرث الفكري والسياسي السائد لا يقابله طرح بديل محدد؛ إذ تظل ملامح الهوية التي يريد رسمها للدولة الجديدة غامضة، باستثناء إشارات عامة إلى الانفتاح والوحدة الوطنية.

هكذا يبدو أن الشرع يطرح شعارا يحمل قطعا ليس فقط مع إرث الدولة السورية، بل أيضا مع تاريخه الخاص داخل الحركات الجهادية، ولكن من دون أن يقدم تصوّرا جامعا لما بعده، فخطابه أقرب إلى مناخ “ما بعد الأيديولوجيا”، حيث يُترك مفهوم الدولة كمجرد وعاء فارغ يُنتظر أن يُملأ لاحقا بالتجربة العملية لا بالرؤية المسبقة.

التسامح بدل الانتقام: مبدأ أم تكتيك؟

من بين أكثر ما شدّد عليه أحمد الشرع في خطابه قوله إن نهج الدولة الجديدة سيكون “التسامح لا الانتقام”، لكن الوقائع في سوريا تسير عكس هذا الاتجاه، فهذا المبدأ، على وجاهته الأخلاقية، لم يلاحظه السوريون في السياسات العامة منذ سقوط النظام السابق، فالساحل ما زال منذ مجازر آذار يعيش على رعب يومي، وحمص وريفها تعيش على تبدلات ديموغرافية وأحداث قتل توصف بأنها “فردية”، فيما تعكس مواجهات السويداء حالة غير مسبوقة للعنف ضد المجتمعات المحلية، وفي مثل هذه البيئة، يصبح التسامح خطابا ضمن سياسة “العلاقات العامة” وليس استراتيجية واضحة المعالم لأجهزة الدولة.

التسامح بوصفه شعارا يظل هشا إن لم يُترجم إلى مؤسسات وآليات واضحة، تجارب دول أخرى تقدّم دروسا بالغة الدلالة، ففي جنوب أفريقيا لم يكن شعار “المصالحة الوطنية” كافيا، بل ارتكز على لجان حقيقة ومساءلة سمحت للضحايا والجناة بالاعتراف وتجاوز الماضي، وفي رواندا، حيث كان الجرح أكثر عمقا، جرى بناء منظومة قضائية هجينة بين العدالة التقليدية والمحاكم الحديثة لإدارة الإرث الدموي، في المقابل، يفتقر الخطاب السوري حتى الآن إلى أي إطار مشابه للعدالة الانتقالية، تنظر إلى طرفي الصراع بنفس مقاييس العدالة، ومن دون هذه الركائز، ينقلب شعار “التسامح” إلى مجرد تكتيك لفظي لامتصاص التوترات، بدل أن يكون أساسا لإعادة تأسيس عقد اجتماعي جديد.

وحدة سوريا: خطاب الطمأنة والهواجس العميقة

في حديثه عن المسألة الكردية وأهالي السويداء، يؤكد الشرع أن أي دعوات للانفصال ستبقى مجرد “أحلام”، وأن الحل لا يكون إلا في إطار الوحدة الوطنية، هذه العبارة تعكس قلقا للخطر الذي يهدد الدولة السورية، وللتشظي الجغرافي.

لكن لغة الطمأنة وحدها لا تكفي، ففي عالم ما بعد الحروب الأهلية، الوحدة لا تُصنع عبر الخطاب بل عبر صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق المكوّنات المختلفة، فتجربة العراق ولبنان تؤكد أن رفض الفيدرالية أو رفض الاعتراف بالهويات الفرعية لم يمنع تفكك النسيج الوطني، وما لم يُطرح مشروع دستوري متماسك يضمن مشاركة حقيقية، فإن الوحدة تبقى شعارا يمكن أن تنتهك فيه كل الحريات أكثر من كونها واقعا.

الاقتصاد: بين سردية الازدهار والواقع المعقد

من اللافت أن خطاب الشرع بدأ بتمجيد تاريخ الشام التجاري والصناعي، واستعادة صورة سوريا كـ”مركز استراتيجي للتداول التجاري”، هذا التوظيف للتاريخ الاقتصادي ليس جديدا؛ إذ يلجأ إليه معظم القادة في مراحل التأسيس لإضفاء شرعية تاريخية على مشاريعهم، لكنه يحمل أيضا خطورة الحنين المبالغ فيه.

فالتحدي الحقيقي ليس في استدعاء صورة الأسواق القديمة، بل في إعادة بناء اقتصاد أنهكته الحرب والعقوبات والتهجير، والشرع يتحدث عن خطط لزيادة الإنتاج وعودة الاستثمارات ورفع الرواتب، لكن دون تحديد مصادر التمويل أو كيفية التعامل مع الديون والعقوبات الدولية، إنه خطاب وعود أكثر من كونه برنامجا اقتصاديا متكاملا.

الدولة كهوية “سلبية

إذا حاولنا تلخيص ما يطرحه الشرع حتى الآن، يمكن القول إن هويته السياسية تقوم على النفي“:

  • ليست إسلامية.
  • ليست قومية.
  • ليست امتدادا للربيع العربي.

هذا التعريف السلبي يجنّبه الدخول في صراعات أيديولوجية مباشرة، لكنه لا يقدّم بديلا يجمع السوريين، وفي غياب رؤية إيجابية واضحة، تتحول هذه “اللا-هوية” إلى نقطة ضعف خطيرة، إذ تترك المجال مفتوحا أمام القوى المتنافسة – داخلية وخارجية – لملء الفراغ برؤاها ومصالحها.

هوية الدولة بين الشعار والمؤسسة

مقارنة «قوة الشعار» مقابل «توفر الآليات المؤسسية» عبر ثلاثة محاور محورية

البيانات قابلة للتعديل من الكائن window.SG_CHART_DATA أدناه. المصدر: قراءة ومعالجة لمحتوى المقال المرفق. :contentReference[oaicite:1]{index=1}

الشرع بين التاريخ والواقع

من الناحية الخطابية، يسعى أحمد الشرع إلى رسم صورة رجل “ما بعد الأيديولوجيات”، قائد براغماتي يقدم وعود بإعادة بناء سوريا على أساس الوحدة والتسامح والتنمية، لكن من الناحية السياسية، يواجه مأزقا مزدوجا:

  1. غياب إطار مؤسساتي واضح لترجمة هذه المبادئ إلى سياسات قابلة للتنفيذ.
  2. التناقض بين الطموحات والقدرات فالوعد بالنهضة الاقتصادية والسياسية يصطدم بواقع دولي معقد وعقوبات لم تُرفع بعد.
  3. سياسات مدمِّرة مزّقت البنى المجتمعية المحلية في سوريا وأخلّت بأمنها، ما دفع «إسرائيل» إلى إعادة ترتيب أوضاعها الأمنية على حساب وحدة الأراضي السورية.

هنا تتكرر معضلة الكثير من القادة الانتقاليين: خطاب واعد لكن بلا جسور كافية بين الرؤية والتنفيذ.

هوية الدولة المعلّقة

يظهر خطاب أحمد الشرع كمرآة للأزمة السورية نفسها؛ أزمة هوية لم تُحسم بعد، فالدولة ليست إسلامية ولا قومية ولا ثورية، لكنها أيضا لم تحدد لنفسها ملامح واضحة جديدة، الوحدة والتسامح والتنمية تبقى شعارات، تحتاج إلى بنية مؤسساتية لترجمتها إلى واقع.

إن هوية الدولة ليست نصا يُكتب في خطاب، بل عقدا اجتماعيا يصاغ بين الحاكم والمحكوم، وإذا أراد الشرع أن يرسّخ موقعه كرئيس انتقالي يقود سوريا نحو المستقبل، فعليه أن يتجاوز خطاب النفي إلى خطاب الإثبات؛ أن يقدّم مشروعا إيجابيا جامعا، يتجاوز ماضيه ولا يكتفي بالتحرر اللفظي منه.

بغير ذلك، ستظل سوريا عالقة في هوية معلّقة حيث “أشباه” دولة  تُعرّف نفسها بما ليست عليه، أكثر مما تُعرّف نفسها بما تريد أن تكونه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *