تعود ضرورة قراءة خطاب حزب الإرادة الشعبية اليوم ليس بوصفه مجرد طرف حزبي، بل كأحد التعبيرات السياسية عن الصراع المحتدم حول مستقبل سوريا، فمع محاضرة مناف طلاس التي قدّم فيها رؤيته للانتقال، وبيان هيثم مناع بتأسيس “الكتلة الوطنية”، بات واضحا أن المشهد السوري لم يعد يُختزل في ثنائية “نظام/معارضة”، بل تحوّل إلى ساحة تتنافس فيها مشاريع متعددة تسعى لاحتكار تعريف “المصلحة الوطنية”.
يطرح حزب الإرادة نفسه بديلا يرفض نغمة الانتصار السهل كما يرفض منطق القطيعة المطلقة، مستندا إلى خطاب يقوم على التعددية، والحوار، والعدالة الاجتماعية، غير أن جوهر هذا الخطاب هو الإصرار على أن سقوط رأس النظام لا يكفي، لأن المنظومة العميقة التي حكمت سوريا لعقود ما زالت قائمة، وأن السياسة ليست بحثا عن إجماع مستحيل، بل تحويل الانقسامات إلى خصومات مشروعة داخل فضاء ديمقراطي جديد.
هذا الخطاب، في بنيته الداخلية، يتقاطع مع المنظور “الأغونيستي” ((Agonistic Perspective أي اعتبار السياسة ليست ساحة توافق عقلاني محايد، بل فضاء صراع منظم بين رؤى متعارضة، يجب أن يُدار ديمقراطياً بدل قمعه أو نفيه.
من خطاب “إسقاط النظام” إلى خطاب “بناء النظام الجديد”
في معظم المعارضات العربية، كان الشعار المركزي هو إسقاط النظام، لكن حزب الإرادة الشعبية اختار صياغة مختلفة فليس الهدف إسقاطا مجردا، بل بناء نظام جديد على أنقاض القديم، وهذا التحول الدلالي يعكس إدراكا أن “القطيعة الرمزية” وحدها غير كافية، وأن الخطر الأكبر هو إعادة إنتاج الاستبداد بصيغ أخرى.
في لقاءاته الإعلامية، شدد الدكتور قدري جميل على أن لحظة السقوط ليست نهاية المطاف، بل بداية مرحلة أكثر تعقيدا تشكل “اليوم الأول بعد السقوط”، وهنا يتموضع الحزب كفاعل حذر، يعلن أنه لن يمنح شرعية مطلقة للسلطة المؤقتة، بل سيقيّمها من خلال أفعالها، خصوصاً في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.
الاعتراف بالخطايا المتبادلة
خطاب الحزب ما بعد السقوط يقوم على المصارحة كشرط للتسامح، فالقوى الموالية للنظام، بحسب قدري جميل ارتكبت خطايا لأنها “أغمضت العين عن فساده”، والمعارضة المسلحة بدورها تورطت بشعارات قصوى واستخدام للسلاح أفقدها شرعية واسعة، حتى روسيا، الحليف الأكبر، وُصفت بأنها “أخطأت التقدير” حين اعتقدت أن الأسد سينصت لنصائحها.
بهذا المعنى، لا يقدّم الحزب خطابا تطهيريا عبر تبرئة نفسه بالكامل من المرحلة السابقة، بل يطالب الجميع، بما فيهم حزب الإرادة، بمراجعة نقدية. وهذه المراجعة جزء من “الصراع الديمقراطي” حيث لا مجال لبراءة مطلقة ولا لاحتكار الحقيقة.
2254 بين الصلاحية والقصور
يتعامل الحزب مع القرار الأممي 2254 ببراغماتية واضحة، فمن حيث الجوهر، القرار ما زال صالحا لأنه يتضمن عناصر الانتقال السياسي من الدستور إلى المعتقلين واللاجئين وإعادة الإعمار، أما من حيث الشكل، فالزمن تجاوزه لأنه يفترض تفاوضا بين “نظام” و”معارضة”، في حين أن الثنائية لم تعد قائمة بعد انهيار السلطة.
الحل إذن – وفق خطاب الحزب – ليس برفض القرار، بل بتعديله ليصبح حواراً سوريا – سوريا، خارج ثنائية الاستقطاب السابقة، هذا الطرح يعكس تحويل العدو إلى “خصم شرعي”، أي بناء فضاء مشترك للصراع المشروع.
العدالة الاجتماعية كشرط للنمو
الشق الاقتصادي من خطاب الحزب هو الأكثر وضوحا وتماسكا، فجميل يرى أن جوهر أي نظام جديد يقوم على ركيزتين:
- سلطة فعلية للشعب عبر آليات مشاركة حقيقية.
- توزيع عادل للثروة باعتبار أن العدالة الاجتماعية ليست نقيضا للنمو، بل شرطا له.
في هذا الإطار ينتقد الحزب خطاب الحكومة المؤقتة حول “اقتصاد السوق” و “الخصخصة”، معتبرا أنه استنساخ لسياسات 2005–2011 الليبرالية التي فجّرت الأزمة، ويعيد التذكير بأن سوريا تملك مزايا مطلقة (كالورد الشامي، غنم العواس، النباتات الطبية) يمكن أن تكون قاعدة لنهضة اقتصادية، إذا وُظفت بعيداً عن منطق النهب والفساد.
هنا يتجلى مفهوم السياسة؛ فهي ليست إدارة تقنية محايدة، بل اختيار بين مشاريع اجتماعية متصارعة. والحزب يضع نفسه في خندق “العدالة ضد النيوليبرالية”.
التعددية كقدر وكمصدر قوة
يؤكد الحزب أن سوريا لا يمكن أن تُحكم من طرف واحد؛ لا حزب بعينه، ولا اتجاه ديني أو قومي، فالتعددية – السياسية والقومية والدينية والطائفية ليست عائقا، بل مصدر غنى إذا أُديرت بالحوار، ولهذا يطرح الحزب لجنة تحضيرية للحوار الوطني، ويدعو لعودة كل السوريين من الخارج للمشاركة.
الخطاب هنا لا يسعى إلى “إجماع وطني” بالمعنى المطموس، بل إلى توافق حد أدنى يتيح إدارة الاختلاف، أو ما يمكن تسميه “ديمقراطية الأغونستية” التي تعني الاعتراف بأن الانقسامات لا تزول، لكن يمكن تأطيرها ضمن قواعد تضمن الاستقرار والشرعية.
الموقف من الخارج والفاعلين الدوليين
لا ينفي الحزب أثر القوى الخارجية (روسيا، تركيا، السعودية، العراق)، بل يعتبرها مؤثرة لا يمكن تجاهلها، لكنه يحذر من استبدال “التبعية للنظام” بتبعية جديدة للخارج، فالحوار يجب أن يبقى سوريا – سوريا، والخارج دوره المساعدة لا الوصاية.
كما يرفض الحزب أي شرعية دولية تُمنح بالالتفاف على الداخل، الشرعية الوحيدة تأتي من الشعب عبر انتخابات ودستور جديد.
يلخص قدري جميل موقفه بجملة: “الثوري لا يكون متشائما أبدا”، فالتفاؤل هنا ليس رومانسيا، بل إستراتيجيا؛ هو ما تصفه موف بـ”الأمل الديمقراطي”، أي الإيمان بإمكانية تحويل الصراع إلى فرصة لبناء مؤسسات جديدة.
خطاب حزب الإرادة الشعبية بعد سقوط البعث تموضع على خط رفيع بين النقد الراديكالي والمشاركة الواقعية، فهو لا يساير السلطة الجديدة بلا شروط، ولا ينزلق إلى خطاب رفض شامل، بل يحاول أن يبني سردية تقوم على:
- الاعتراف بالمسؤوليات المشتركة عن الانهيار.
- إعادة تعريف السياسة كصراع مشروع على خيارات اجتماعية.
- وضع العدالة الاجتماعية في قلب المشروع الوطني.
- تحويل التعددية إلى مصدر قوة لا ضعف.
بهذا المعنى، فإن خطاب الحزب إذا استمر على هذا النحو يمكن أن يشكل أحد تجسيديات ديمقراطية لا تقوم على وهم الإجماع، بل على تحويل الانقسام إلى خصومة منظمة، والصراع إلى طاقة لإعادة تأسيس العقد الاجتماعي السوري.