يقدم الحزب الشيوعي السوري الموحد اليوم خطابا يتجاوز حدود التنديد العاطفي إلى مساءلة مباشرة للسلطة، وفي الوقت نفسه يرسّخ رؤية وطنية ترفض الطائفية وتدعو إلى عقد اجتماعي جديد.
البيانات الصادرة عن الحزب، والتي توزّعت بين إدانة المجازر في السويداء، ورفض العدوان الإسرائيلي، والتنديد بالتفجيرات الإرهابية، والتحذير من النزعات الطائفية، تكشف عن استراتيجية متشابكة؛ فهي من جهة تسعى لترسيخ شرعية الحزب كقوة وطنية جامعة، ومن جهة أخرى توجّه نقدا صريحا للسلطة السورية، معتبرة إياها مسؤولة أولى عن عجز الدولة في حماية مواطنيها.
هذا التوازن بين الخطاب الوطني الجامع والنقد المباشر للسلطة، هو ما يمنح الحزب موقعا في المشهد السياسي السوري، فالخطاب يحاكي نموذج “المعارضة المؤسسية” التي تعمل من داخل المجال الوطني، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى تقييد السلطة وإخضاعها لمعايير المسؤولية والشرعية.
إدانة العنف وتحميل السلطة المسؤولية
في بيانه حول أحداث السويداء (18 تموز 2025)، استخدم الحزب لغة عاطفية قوية: “أوقفوا هذه المجازر الوحشية”، “لا تدخلوا البلاد في حرب طائفية”، “أوقفوا إراقة دماء الأخوة”، هذا الخطاب الذي يحمّل السلطة مسؤولية مباشرة عن فشلها في ضمان أمن المواطنين، يعكس إدراك الحزب لواحدة من أخطر اللحظات في التاريخ السوري الحديث؛ انزلاق الصراع من مواجهة سياسية إلى تفكك أهلي يقوّض وحدة الدولة ذاتها.
لكن اللافت في هذا البيان أنه لا يكتفي بالتحذير أو التنديد، بل يضع السلطة أمام معادلة مساءلة واضحة؛ لم يعد مقبولا الاكتفاء بعبارات مثل “سنعاقب” أو “سنحاسب”، بهذا المعنى، يسعى الحزب إلى كسر احتكار السلطة لخطاب “السيطرة الأمنية” الذي لطالما كان أداة تبرير للفشل، ويعيد تعريف الأمن باعتباره مسؤولية سياسية وأخلاقية، لا مجرد أداة قمع.
وكان الحزب أصدر ابيانا عن مجازر الساحل السوري في 6 آذار 2025، أشار فيه إلى اندلاع اشتباكات مسلحة بين قوات الأمن والجيش التابعين للإدارة الحالية ومسلحين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، مع وقوع ضحايا مدنيين وعمليات اعتقال واسعة ونزوح أهالي وانقطاع لحركة الحياة بعد فرض حظر تجول، فيما تواصلت مداهمات واعتقالات في حمص، وحذر من أن العنف وإطلاق النار لن يجلبا الأمن أو الاستقرار، ودعا إلى مشاركة سياسية شاملة للأحزاب والطوائف لبناء دولة مدنية ديمقراطية عبر حوار حقيقي، محذِّرًا من استغلال منصات التواصل والمواقع الدينية للتحريض الطائفي. وختم بدعوة صريحة إلى نبذ السلاح وتحقيق مصالحة وطنية شاملة وحماية وحدة البلاد في مواجهة ما وصفه بالعدوان الصهيوني.
رفض الطائفية وبناء سردية الوحدة الوطنية
من بين الثيمات المركزية في بيانات الحزب، يظهر رفضه القاطع للانقسام الطائفي، فهو يكرر أن “لا يوجد في سوريا أقليات وأكثريات، يوجد شعب سوري واحد”، وهذا الخطاب، وإن كان يعكس تقليدا شيوعيا قديما في الدفاع عن الهوية الوطنية الجامعة، إلا أنه يكتسب اليوم أهمية مضاعفة، ففي سياق تتكاثر فيه مشاريع التفتيت (الإسرائيلي، الأميركي، التركي)، يصبح خطاب الحزب محاولة لاستعادة فكرة “الوطن” من قبضة الاستقطابات.
غير أن ما يميّز خطاب الحزب هنا أنه لا يكتفي بالدعوة المعيارية للوحدة، بل يحاول فضح الاستراتيجيات السلطوية التي تستثمر في الطائفية كأداة حكم، فعندما يتحدث البيان عن أن القوى الخارجية تروّج لفكرة “حماية الأقليات”، فإن الرسالة الضمنية واضحة حيث السلطة السورية نفسها، عبر خطابها، أسهمت في إنتاج هذه الثنائية المسمومة التي تقوّض النسيج الاجتماعي.
ين مواجهة العدوان الخارجي والضغط الداخلي
البيانات المتعلقة بالعدوان الإسرائيلي على دمشق (16 تموز 2025) أو إيران (13 حزيران 2025) تكشف عن ثنائية في خطاب الحزب فهو من جهة يرفع لواء “المقاومة الوطنية”، مؤكّدا أن مواجهة الصهيونية والإمبريالية هي مسؤولية مشتركة لكل السوريين؛ ومن جهة أخرى، يربط القدرة على مواجهة هذه التهديدات الخارجية بإنجاز حوار وطني شامل يفضي إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية.
هذه الثنائية تعكس إدراك الحزب لمعضلة مركزية في الأنظمة السلطوية، فكلما توسّعت السلطة في استخدام “الخطر الخارجي” لتبرير قمعها الداخلي، ضعفت في قدرتها الفعلية على مواجهة هذا الخطر، الحزب يسعى إلى قلب المعادلة فلا مقاومة حقيقية من دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية قابلة للاستمرار من دون مقاومة للهيمنة الخارجية.
تفجيرات الكنائس والبعد الأخلاقي للخطاب
في بيانه حول تفجير كنيسة مار الياس (22 حزيران 2025)، يذهب الحزب إلى أبعد من الإدانة التقليدية، فهو يرى في هذه الجريمة تهديدا للسلم الأهلي نفسه، ويضع الحفاظ عليه كـ”حجر زاوية” لبناء سوريا الجديدة. بهذا يربط الحزب بين البعد الأخلاقي (قدسية الحياة الإنسانية) والبعد السياسي (ضرورة العدالة والمواطنة).
هذا النوع من الخطاب، يكشف عن وظيفة المعارضة كـ”حارس للمعايير الديمقراطية”، فبينما تكتفي السلطة بتوصيف الحدث كعمل إرهابي معزول، يوسّع الحزب الإطار ليكشف عن السياقات البنيوية: التحريض الطائفي، وغياب المساءلة، وانهيار العقد الاجتماعي.
نقد اقتصادي مؤسس على شرعية الدستور
في مقاله المنشور بجريدة النور (العدد 1140)، يتخذ الحزب منحى اقتصاديا واضحا حيث يرفض استباق السلطة الانتقالية لمصير الاقتصاد الوطني عبر التوجه إلى اقتصاد السوق الحر، ويطالب بانتظار صياغة دستور جديد يوافق عليه الشعب.
هنا يظهر تجسيدً عن المعارضة “الحارسة للمؤسسات”، فالحزب لا يرفض النقاش الاقتصادي فحسب، بل يعيد الشرعية إلى مصدرها الوحيد، أي العقد الدستوري.
بهذا المعنى، يقدّم الحزب نفسه كقوة سياسية لا تكتفي بانتقاد الانتهاكات اليومية، بل تسعى إلى إعادة تعريف قواعد اللعبة نفسها، على نحو يحد من استبداد السلطة ويضمن مشاركة أوسع للقوى الاجتماعية.
خطاب المعارضة بين الشرعية والمساءلة
منذ 8 كانون الأول 2025، ارتسمت معالم خطاب الحزب الشيوعي السوري الموحّد على النحو التالي:
- إدانة مباشرة للعنف وتحميل السلطة المسؤولية عن حماية المواطنين.
- رفض جذري للطائفية باعتبارها أداة تفتيت داخلية وخارجية.
- ربط المقاومة الخارجية بالديمقراطية الداخلية، في مواجهة معادلة السلطة التقليدية.
- إعادة الاعتبار للدستور والمؤسسات كإطار شرعي لأي تحول اقتصادي أو سياسي.
- تقديم مشروع تأسيسي بديل قائم على المواطنة والعدالة الاجتماعية.
بهذا المعنى، فإن خطاب الحزب الشيوعي السوري الموحّد لا ينحصر في المعارضة الجزئية أو في النقد الخطابي، بل يسعى إلى ممارسة دور “الضمير للمؤسسات” الذي يحذّر من انزلاق الدولة إلى الفوضى الطائفية، وفي الوقت نفسه يطرح ملامح مشروع بديل للدولة الوطنية الحديثة.
إن قراءة هذا الخطاب تكشف عن جوهر الصراع السوري الراهن، فليست المعضلة فقط في تجاوز الاستبداد أو مواجهة العدوان الخارجي، بل في إعادة بناء قواعد اللعبة السياسية نفسها، على نحو يضمن ألا يتحوّل الوطن إلى حلبة دائمة للعنف، وألا تبقى السلطة بلا مساءلة.
فالمعارضة الحقيقية ليست مجرد صوت احتجاجي، بل هي قوة لإعادة تعريف معنى الدولة، حدودها، وشرعيتها. وفي الحالة السورية، يبدو الحزب الشيوعي السوري الموحّد أحد أبرز الفاعلين في هذه المهمة التاريخية.