على مدى أكثر من عقد، ظلت الأزمة السورية حلبة لتجاذب المصالح الدولية والإقليمية، في ظل غياب أي تسوية حقيقية أو عملية سياسية ذات صدقية.
مع بروز حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع، يبرز تناقض صارخ في الموقف الأميركي، فواشنطن تصفها بأنها سلطة مؤقتة بلا تفويض شعبي، لكنها في الوقت نفسه تدخل معها في ملفات سيادية كبرى، من المفاوضات مع “إسرائيل” إلى إعادة الإعمار، واللافت أن هذه السلطة تستند عمليا إلى توازنات فرضتها هيئة تحرير الشام، المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، بوصفها القوة الفعلية التي لم تكتفِ بالسيطرة العسكرية على الأرض، بل انتقلت إلى قلب المعادلة السياسية عبر السيطرة على دمشق وتشكيل حكومة انتقالية، قبل أن تُعلن حلّ نفسها شكليا فيما توزّع قادتها على رأس الوزارات السيادية السورية، بما يجعلهم أصحاب القرار الحقيقي خلف واجهة سياسية انتقالية.
شرعية مفقودة على أنقاض سلطة الأمر الواقع
عمليا، تم بناء “الشرعية” في سوريا على قاعدة هشة، فهي ليست صادرة عن عملية انتخابية تعكس إرادة شعبية، ولا عن توافق وطني جامع يضم مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، بل عن سلطة انتقالية وُلدت في ظروف استثنائية، وأقرب إلى التسويات الفوقية منها إلى المشاركة الشعبية، وما يفاقم هذه الهشاشة أن هذه السلطة لم تكن لتوجد لولا الترتيبات الدولية والإقليمية التي مهدت عمليا لتجاوز هيئة تحرير الشام حدود محافظة إدلب وصولا إلى دمشق.
هنا يظهر التناقض الأميركي بأوضح صوره، فواشنطن التي ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، قبلت عمليا بأن يكون “الإرث العسكري” هو مصدر الشرعية الفعلية للحكومة الانتقالية، أي أن معيار القبول لم يكن التفويض الشعبي أو الالتزام بآليات دستورية، بل القدرة على فرض الاستقرار بالقوة ولو مؤقتا.
تحولت “الشرعية” في سوريا من مفهوم سياسي-اجتماعي قائم على التعاقد بين الحاكم والمحكوم إلى مجرد “غطاء وظيفي” يلبّي احتياجات المجتمع الدولي، فتم التغاضي عن شرعية امتلاك الحكومة الانتقالية التوقيع على اتفاقيات، وإدارة المساعدات، والدخول في مفاوضات إقليمية، وهذه الصيغة، رغم ما تمنحه من مخرج مؤقت للأزمة، تُسقط أهم ما يفترض أن تقوم عليه الشرعية السياسية من تعبير عن الإرادة الحرة للشعب.
إن قبول الولايات المتحدة وحلفائها بهذه المعادلة يفضح التناقض البنيوي في سياساتهم، ففي الوقت الذي يعلنون فيه التمسك بالقيم الديمقراطية، يساهمون في إرساء سلطة تستمد قوتها من موازين السلاح، لا من صناديق الاقتراع، وهذا يعكس منطقا يتكرر في تدخلاتهم، فما يهم هو استقرار قابل للإدارة، لا ديمقراطية حقيقية.
براغماتية الضرورة: بين الإرهاب والاستقرار
من وجهة النظر الأميركية، يبقى الحفاظ على الاستقرار ومنع عودة الفوضى أولوية تتجاوز أي مبادئ معلنة، فواشنطن تعلم أن هيئة تحرير الشام مدرجة على قوائم الإرهاب لديها، لكنها تجد نفسها أمام واقع مغاير، فالجماعة لم تعد مجرد قوة مسيطرة في الشمال، بل انتقلت إلى قلب دمشق، حيث أشرفت على تشكيل الحكومة الانتقالية، فـ”النظام” الذي تُشيد به واشنطن اليوم، من إدارة مدنية وأجهزة أمنية واقتصاد مواز، هو في جوهره إعادة تموضع لسلطة كانت تعتبرها بالأمس تهديدا إرهابيا.
هذا المشهد يضع واشنطن أمام معضلة استراتيجية واضحة، حيث تتجاهل الأصل الجهادي لهذه البنية السياسية وتكتفي بالتعامل مع واجهة انتقالية توفر لها شريكاً قابلاً للتفاوض، وتدخل في مغامرة إعادة هندسة سلطة بديلة في بلد يفتقر لأي قوة سورية موحدة وشرعية شعبية واضحة، إنها خيارات مؤقتة ولكنه يشرعن ضمنا سلطة مرتبطة بجماعة مصنفة إرهابية.
إسرائيل كمحدد رئيسي
وسط هذا المشهد، يظل البعد الإسرائيلي حاضرا بقوة، فهناك قبول بأي حكومة سورية انتقالية أو دائمة، مادامت ستخضع للاختبار عن مدى استعدادها للانخراط في مسار تفاوضي مع إسرائيل؛ فبالنسبة لواشنطن نجاح هذا المسار يعلو على أي اعتبارات أخرى، بما في ذلك مسألة التعامل غير المباشر مع هيئة تحرير الشام.
فالمطلوب من وجهة النظر الأميركية ليس سلطة سورية شرعية بالمعنى الديمقراطي، بل سلطة “قابلة للتطويع“ في الملفات الإقليمية الأساسية من السلام مع إسرائيل، وضبط الحدود، ومنع تمدد النفوذ الإيراني، وإبقاء التوازنات الإقليمية تحت السيطرة، وهذه الشروط، بالنسبة لواشنطن، تفوق أي اعتبار آخر، حتى لو جاء ذلك على حساب مبادئ الديمقراطية أو حقوق السوريين في تقرير مصيرهم عبر صناديق الاقتراع.
الأخطر أن هذا “التطويع” يُبنى على قاعدة تحالفات ملتبسة مع قوى مصنفة إرهابية، كما هو الحال مع هيئة تحرير الشام التي انتقلت من حركة مسلحة إلى قوة نافذة داخل الحكومة الانتقالية، فالسياسة الأميركية، التي تُعلن رفضها القاطع لأي شراكة مع الإرهاب، تنخرط عمليا في شرعنة سلطة سياسية تستمد قوتها من جماعة طالما وُصفت في واشنطن بالتهديد الجهادي الأكبر في سوريا.
الاقتصاد: أداة إضفاء الشرعية
إعادة الإعمار والتمويل الدولي يمثلان أدوات ضغط مركزية، فواشنطن وحلفاؤها سيستخدمون المساعدات لإضفاء شرعية عملية على حكومة انتقالية، وتحويلها إلى مرجعية سياسية أمر واقع، رغم افتقادها الشرعية الداخلية.
لكن هذا يعني أيضاً أن أي استقرار اقتصادي في سوريا سيكون مرهوناً بتفاهمات غير معلنة مع هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على موارد ومعابر وضرائب في الشمال، وهنا يكمن التناقض: كيف يمكن للنظام الدولي أن يمول سلطة مرتبطة عضوياً بكيان يصفه بالإرهابي؟
هذا الترتيب يحقق لواشنطن مكاسب قصيرة الأمد من تجميد الصراع، وضبط الأمن في الشمال، وفتح قنوات تفاوضية مع “إسرائيل”، لكنه يحمل مخاطر استراتيجية:
- شرعنة سلطة بلا قاعدة شعبية، ما يعني هشاشتها أمام أي حراك داخلي جديد.
- إدماج جماعة مصنفة إرهابية في المشهد السياسي، ولو بشكل غير مباشر، ما يضعف مصداقية الموقف الأميركي في مكافحة الإرهاب.
- إنتاج استقرار زائف ينهار عند أول أزمة اقتصادية أو أمنية، كما حدث في حالات أخرى من المنطقة.
- الاعتراف بسلطة انتقالية قامت بمجازر تم توثيقها، من جهات محلية ودولية، واستهدفت مكونات سيادية سورية بقصد القتل والالغاء والتهميش.
التعامل الأميركي مع حكومة أحمد الشرع يعكس براغماتية صارخة، فواشنطن تدرك أن هذه الحكومة انتقالية بلا شرعية انتخابية، لكنها تمنحها صلاحيات سيادية لأنها تمثل الغطاء الممكن للتعامل مع واقع فرضته هيئة تحرير الشام، رغم أنها على قوائم الإرهاب الأميركية.
إنها معادلة محفوفة بالتناقضات، فالحكومة انتقالية تتحول إلى سلطة دائمة بلا انتخابات، مدعومة بقوة عسكرية محظورة دوليا، لكنها مقبولة ما دامت تخدم أولويات الأمن الإقليمي وخصوصا “إسرائيل”.
تُعيد واشنطن إنتاج سيناريو مألوف في الشرق الأوسط، فهناك شرعية مصطنعة، واستقرار هش، وملف ديمقراطي مؤجل إلى أجل غير مسمى، فوق ركام سلطة أمر واقع ترتبط بتنظيم إرهابي، الأمر الذي يجعل مستقبل سوريا أكثر غموضا، وأكثر عرضة لانفجارات جديدة في حال اختلّت موازين المصالح الدولية.