مقابلة أسعد الشيباني مع فريد زكريا: تحليل نقدي لسياسات سوريا الجديدة بين الطموحات والواقع

في مقابلة أجراها فريد زكريا مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، برزت ملامح خطاب سياسي يسعى إلى إعادة تعريف سوريا ما بعد النظام السابق؛ دولة مدنية، موحدة، منفتحة على الاستثمارات، ومتحررة من التدخلات الخارجية.

لكن هذا الخطاب الطموح توازيه أرقام ومعطيات ميدانية تكشف عن فجوة بين الصورة المعلنة والواقع، فبينما تحدث الشيباني عن جذب 28.5 مليار دولار استثمارات، لا تزال البلاد تعاني من فجوة غذائية، وبنى تحتية منهارة، وتمثيل نسائي محدود في السياسة، وصراعات طائفية مؤجلة.

المقابلة ليست مجرد سرد شخصي لمسؤول جديد، بل وثيقة تعكس طموحات النظام الناشئ وحدود قدرته على ترجمتها إلى سياسات عامة ناجعة.

التحول السياسي: من المسدس إلى الميكروفون

الشيباني قدّم نفسه كجزء من الثورة منذ عام 2011، وهو يرفض وصف الانتقال من المعارضة المسلحة إلى السلطة التنفيذية بـ “التحول” كما لو كان عملية ميكانيكية، بل يراه امتدادا طبيعيا لحراك شعبي مستمر، غير أن هذا التوصيف لا يجيب عن سؤال جوهري يتعلق بالكيفية التي جرى فيها دمج الفصائل المسلحة و الاجنبية منها ضمن مؤسسات الدولة.

حتى الآن، لم تُنشر بيانات رسمية واضحة حول أعداد المقاتلين الذين جرى استيعابهم في الجيش أو الأجهزة الأمنية، ولا عن آليات التحقق من التزامهم بمعايير الانضباط أو العدالة، وهذا الغموض يترك مساحة للشك حول ما إذا كانت الدولة الجديدة تُعيد إنتاج نموذج الميليشيا داخل مؤسساتها.

المسار السياسي أيضا لم يترافق مع برنامج مصالحة وطنية حقيقي، وما زالت قطاعات واسعة من السوريين، خصوصا في الساحل وجبل العرب، تتعترض للقتل والتهجير وتشعر بالخوف والتهميش وعدم المشاركة الفعلية في صياغة مستقبل البلاد، وهذه الهوة بين المركز والفئات المهمشة تنعكس في ضعف الثقة بالسلطة الجديدة، وهو ما يجعل أي تحول سياسي بحاجة إلى أكثر من خطاب شرعية، بل إلى سياسات ميدانية تُثبت قدرتها على تحويل المقاتلين السابقين إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

الدستور السوري المرتقب: بين النص والشبهة

حديث الشيباني عن أن الدستور القادم سيستمد من الشريعة والأعراف والتقاليد والواقع الحالي يبدو محاولة لإرضاء شرائح متعددة من المجتمع، لكن هذه الصياغة المبهمة تفتح الباب أمام تفسيرات متناقضة، وتؤدي إلى إنتاج نص قانوني فضفاض يسهل استخدامه لتبرير ممارسات سلطوية.

ما يزيد من الشكوك أن الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة في 5 أكتوبر، ستُجرى وفق آلية تمنح الرئيس صلاحية تعيين ثلث الأعضاء، فيما يُنتخب الثلثان الآخران، مثل هذه الصيغة تحدّ من التمثيل الشعبي الحقيقي وتضعف الشرعية البرلمانية منذ البداية.

أما على صعيد التمثيل الجندري، فالصورة لا تبدو أفضل حالا، فالبرلمان الحالي يضم 24 نائبة من أصل 250 عضوا، أي بنسبة 9.6% فقط، وهي نسبة متواضعة في بلد يتجاوز عدد سكانه 20 مليون نسمة.

غياب رؤية واضحة لرفع هذه النسبة أو اعتماد كوتا نسائية فعلية يثير القلق حول نية النظام الجديد معالجة الخلل البنيوي في التمثيل، ومجرد الاعتراف بعدم كفاية تمثيل النساء لا يكفي، بل يجب أن يقترن بخطوات تشريعية وتنفيذية ملموسة لضمان مشاركة أكثر شمولية في صناعة القرار.

الهوية الوطنية والطائفية: خطاب جامع أم واقع هش

في المقابلة، شدد الشيباني على رفض أي تصنيف طائفي وفضّل استخدام تعبير “الشعب السوري”، وهذا الخطاب يبدو جامعا من الناحية النظرية، لكنه لا يعكس الواقع الميداني، مناطق مثل الساحل والسويداء لا تزال تشهد اشتباكات دورية، وغالبا ما تُفسَّر هذه الأحداث في إطار طائفي أو عشائري، مما يعكس هشاشة السلم الأهلي، وتجاهل هذه الوقائع والاكتفاء بإنكار الطائفية بوصفها إرثا من النظام السابق، كلام غير دقيق ويتجاهل حجم التحدي الحقيقي الماثل أمام السلطة الجديدة.

التقارير الدولية تشير إلى أن النزاع الطائفي لا يزال من أبرز التهديدات لوحدة سوريا، خاصة في ظل مطالب المكونات الدينية والإثنية بحقوق دستورية مضمونة، فالأكراد، على سبيل المثال، يعيدون التأكيد على مطلب الاعتراف بهويتهم القومية ضمن الدستور الجديد.

إن مواجهة هذا الواقع تتطلب بناء مؤسسات للعدالة والمساءلة قادرة على استعادة الثقة، وإلا فإن الهوية الوطنية ستظل خطابا بلا ترجمة عملية، وستبقى سوريا عرضة لإعادة إنتاج دوامات الانقسام.

الدولة المركزية أم النموذج الفيدرالي؟

رفض الشيباني للنموذج الفيدرالي العراقي يبدو متسقا مع خوفه من الانقسام، إذ يصر على أن الدولة المركزية هي الضامن الوحيد للاستقرار، وهذه الرؤية تتجاهل الواقع الميداني حيث تسيطر قوى محلية على مناطق واسعة، خصوصا في الشمال الشرقي، وتجاوز مطالب هذه القوى سيدفعها إلى التشدد في مواقفها، مما يُنذر بصدام مستقبلي بين المركز والمكونات المحلية التي ترى في اللامركزية ضمانة لحقوقها السياسية والإدارية.

تجربة العراق، رغم كل تعقيداتها، أثبتت أن الفيدرالية وسيلة لتوزيع السلطة وتقليل النزاعات، لا مجرد وصفة للتفكك، وتمسك الشيباني بالمركزية دون تقديم بدائل عملية لإشراك المكونات المختلفة يثير المخاوف من أن يكون النظام الجديد بصدد إعادة إنتاج المركزية المفرطة، والموازنة بين وحدة الدولة وحقوق المكونات شرط لأي استقرار مستدام.

التدخلات الخارجية: شرعية السيادة وحدودها

خطاب الشيباني الرافض لأي تدخل خارجي يتماشى مع تطلع السوريين إلى استعادة سيادتهم الوطنية، لكنه على أرض الواقع يجد نفسه مضطرا للتعامل مع تدخلات مباشرة أو غير مباشرة، ففي السويداء ظهرت خريطة طريق بمشاركة أمريكية وأردنية، وهو ما يتناقض مع خطاب الاستقلالية التامة، كما وافقت دول خليجية على تقديم دعم مالي بقيمة 89 مليون دولار لتغطية الرواتب، وهو ما يُظهر اعتمادا اقتصاديا يصعب تجاوزه.

عسكريا نفذت إسرائيل أكثر من ألف غارة منذ كانون الأول 2024، واستولت على مواقع جديدة في الجنوب، ومنعت عودة بعض القوات الأممية، وهذا الواقع يجعل من خطاب السيادة شعارا هشا أمام توازنات إقليمية قاسية، ومن دون استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه التدخلات، سواء عبر الردع أو الدبلوماسية، ستبقى سوريا أسيرة تناقض بين خطابها الوطني واعتمادها الفعلي على الخارج.

إسرائيل وسوريا: بين التصعيد وفخ التطبيع

شرط الشيباني لفتح باب التطبيع مع إسرائيل هو العودة إلى حدود ما قبل 8 كانون الأول والانسحاب من الجولان والمناطق المحتلة، ما يطرح سؤالا حول قدرة سوريا الحالية على فرض مثل هذه الشروط في غياب حلفاء إقليميين أقوياء، فإعلان القطيعة مع إيران وحزب الله يضعف الموقف السوري استراتيجيا، ويترك  السلطة في دمشق بعزلة إقليمية تجعلها عرضة لمزيد من الضغوط “الإسرائيلية”.

التصعيد المستمر يعكس مأزق سياسة الخارجية السورية الجديدة، فهي تُصر على موقف مبدئي يعزز شرعيتها الشعبية، لكنها تواجه واقعا عسكريا لا يمنحها القدرة على فرض شروطها، وهذه المفارقة تجعل الموقف السوري أقرب إلى الدفاع الإعلامي منه إلى سياسة خارجية متماسكة قادرة على إدارة الصراع والتفاوض من موقع قوة.

الاقتصاد السوري: استثمارات ضخمة أم أرقام لزمن التعبئة؟

الأرقام التي أعلنها الشيباني حول الاستثمارات تبدو مثيرة للإعجاب، لكن تحليلها يكشف عن هشاشة كامنة، فعقود السياحة وحدها بلغت1.5  مليار دولار، إضافة إلى مذكرات تفاهم بقيمة14  مليار دولار في النقل والبنية التحتية والعقارات، هذه الاستثمارات إن أنجزت تتركز في قطاعات ذات عوائد سريعة ومحدودة التأثير على الأمن الغذائي أو الطاقة، في حين أن إنتاج القمح تراجع بنسبة 40%، ومناقصة لتوريد200  ألف طن لم تُنفذ بعد.

الاقتصاد السوري ما يزال يفتقر إلى بنية تحتية قادرة على استيعاب هذه الاستثمارات وتحويلها إلى مشاريع ملموسة، وغياب الإصلاحات القانونية والمصرفية يجعل مناخ الاستثمار محفوفا بالمخاطر، ويهدد بتحويل هذه التدفقات المالية إلى اقتصاد ريعي جديد، الأرقام الضخمة تبدو أدوات للتعبئة السياسية أكثر منها خططا لإعادة بناء اقتصاد وطني متوازن ومستدام.

العدالة الانتقالية: الطموح يختبئ خلف الضباب

إعلان الشيباني عن إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية خطوة مهمة على الورق، وهي بلا معنى لأتها لا تملك آليات مستقلة وشفافة ولن تخلق مسارا للإنصاف والمصالحة، فحتى الآن لم تُحدد معايير المحاسبة أو آليات مشاركة الضحايا في صياغة هذا المسار.

منظمات حقوقية حذرت من أن قضايا حساسة مثل جرائم العنف الجنسي يتم تجاوزها أو التعامل معها بشكل سطحي، وإدماج هذه القضايا في مسار العدالة ليس مجرد مطلب إنساني، بل شرط أساسي لبناء مصداقية داخلية ودولية.

المرأة في سوريا: بين التمثيل الرمزي والواقع المظلُّم

وجود وزيرة فقط في الحكومة ونسبة نسائية برلمانية تقل عن 10% يعكس خللا بنيويا في التمثيل، فالنساء، اللواتي شكلن العمود الفقري للمجتمع خلال الحرب من خلال أدوارهن في التعليم والرعاية والعمل، ما زلن مبعدات عن صناعة القرار، وهذه المفارقة تضعف مصداقية أي حديث عن أن المرأة عنصر أساسي في المجتمع السوري.

المجتمع الدولي والمنظمات النسوية السورية يطالبون باعتماد كوتا نسائية تضمن ما لا يقل عن 30% من المقاعد في البرلمان والحكومة، ومن دون إجراءات كهذه، سيبقى حضور النساء رمزيا، يُستخدم لإظهار صورة حداثية في الخارج دون أن يعكس تحولا فعليا في الداخل. معالجة هذه الفجوة ليست مسألة تجميل سياسي، بل شرط ضروري لضمان استقرار اجتماعي واقتصادي على المدى الطويل.

بين الوعود المعلنة والميدان الساطع

مقابلة أسعد الشيباني مع فريد زكريا تكشف عن محاولة لتسويق سردية سياسية جديدة، لكنها في الوقت نفسه تفضح حدود هذه السردية أمام الوقائع الرقمية والميدانية، فالأرقام الاستثمارية لا تُترجم بالضرورة إلى تحسين في الأمن الغذائي أو البنية التحتية، والخطاب الوطني الجامع لا يزيل التوترات الطائفية القائمة، وشعارات العدالة الانتقالية لا تعني شيئا ما لم تتحول إلى مؤسسات فاعلة ذات مصداقية.

إن سوريا الجديدة لن تُقاس بوعودها بل بقدرتها على معالجة تناقضاتها الداخلية؛ من دمج المقاتلين السابقين، إلى بناء دستور توافقي، إلى تمكين النساء، وإلى مواجهة التدخلات الخارجية بسياسة متوازنة. إن لم يحدث ذلك، فإن ما يبدو اليوم مشروع دولة ناشئة ينزلق إلى مأزق الدولة الهشة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *