لم تكن حوادث تكسيرالتماثيل في حلب أو تخريب المعدات الموسيقية في دمشق مجرد مشاهد عابرة في فضاء الذاكرة السورية، ففي بلد يعيش صراع الهوية، تصبح الرموز الثقافية مؤشّرا على توجهات السياسة العامة أكثر من كونها أحداثا ثقافية أو فردية.
حين يُكسر تمثال في ساحة عامة أو تُهشم آلة كمان في معهد موسيقي، فإن ما يتحطّم في العمق ليس الحجر أو الخشب، بل العقد الاجتماعي ذاته، والرؤية التي تصوغ علاقة الدولة بالمجتمع والفن والذاكرة.
ما يبدو كأحداث منفصلة مثل تدمير تماثيل في كلية الفنون بحلب، وإسقاط تمثال “الشهداء” في ساحة سعد الله الجابري، وتخريب آلات موسيقية في دمشق، أو اقتحام صالة حفلات في إدلب؛ يكشف في جوهره عن اتجاه جديد في السلوك الرسمي وغير الرسمي للدولة السورية: تحويل الفضاء العام من مجالٍ رمزي متنوع إلى مجالٍ منتهي ثقافيا ومفرغمن الدلالات الإنسانية.
إنها ليست “حوادث ثقافية”، بل إشارات إلى منظور أمني جديد تجاه المجال العام، يعيد تعريف حدود المقبول والممنوع فيما تبقى من المجال المدني السوري.
الدولة كفاعل ثقافي سلبي
في كل الحوادث الأخيرة، سواء في حلب أو دمشق، لجأت السلطات إلى تبريرات إجرائية،”نقل التمثال للترميم”، و “إزالة مشاريع طلابية متضررة”، و “أعمال صيانة”، وهذه اللغة البيروقراطية التي تُستخدم عادة لتغطية قرارات سياسية مثيرة للجدل؛ لا تُقنع أحدا بقدر ما تُعبّر عن ذهنية الدولة السورية في التعامل مع الرموز الثقافية، فهي إدارة الانحسار لا إنتاج الثقافة.
فالدولة التي كانت راعية للفن والآثار والموسيقى، أصبحت اليوم، في أفضل الأحوال، متفرجة على انحسارها، وفي أسوأها، متواطئة مع تدميرها الرمزي.
في الأدبيات السياسية، يُسمى هذا النمط “التحييد الثقافي المتعمد” أي تقليص المساحات الرمزية التي يمكن أن تولّد معنى خارج الخطاب الرسمي، فحين تُزال تماثيل أو تُغلق صالات فنية بحجة التنظيم، يُعاد تشكيل المجال العام بحيث لا يبقى فيه سوى الرموز المقبولة سياسيا أو دينيا أو أمنيا.
النتيجة ليست “تنظيف الساحات” بل تنظيف الوعي مما قد يذكّر الناس بأن ثمة تنوعا وذاكرة وجمالا.
ما وراء التحطيم: سياسات ما بعد السيطرة
لم تعد السلطات الجديدة في سوريا مضطرة إلى استخدام العنف المباشر لإثبات السيطرة، فالمجتمع المرهق، المنهك اقتصاديا والمقسّم سياسيا، لم يعد يشكّل تهديدا أمنيا عاجلا لأيّ طرف حاكم، لكنّ التحدي الأعمق الذي تواجهه هذه السلطات اليوم لا يكمن في ضبط الأرض، بل في إدارة المعنى داخل فضاءات ما بعد الحرب، فمن يملك حقّ تعريف “الهوية” و”الوطنية” و”الثقافة”؟ ومن يقرّر ما يُبنى وما يُمحى من الذاكرة العامة؟
في هذا السياق، تأتي سياسات الثقافة والرموز بوصفها أدوات لضبط المعنى العام، أي منع ظهور أي سردية بديلة عن “سوريا الرسمية” التي تحكمها ذاكرة التراث والدين في آن.
إن تحطيم التماثيل أو الآلات الموسيقية، حتى لو لم يكن قرارا مركزيا، لكنه يجري في مناخٍ عامّ تشجّع فيه السلطة الامتناع عن الجمال، فالصمت في وجه التحطيم هو نوع من الترخيص غير المكتوب، ومن التواطؤ الذي يسمح بتحويل الأيديولوجيا إلى فعل اجتماعي.
لا يحتاج النظام إلى أن يصدر أمرا بتحطيم تمثال أو آلة؛ يكفي أن يخلق بيئة يعتبر فيها الفعل مبررا أو مفهوما.
تحوّل بنية السلطة وإعادة تعريف الاقتصاد السياسي
لفهم هذه الظاهرة، لا بد من النظر إلى طبيعة الاقتصاد السياسي في سوريا الجديدة، فبعد سنوات الحرب الطويلة، لم تعد السياسة العامة تُدار من مركز واحد، بل من مراكز متعددة تتنافس على الشرعية وتُعيد صياغة مفهوم “الاستقرار” وفق مصالحها المحلية.
السلطات الناشئة تبنّت، في معظمها، سياسة استقرار رمزي دون استقرار مؤسساتي، فالإيحاء بالعودة إلى الحياة الطبيعية من خلال نشاط عمراني وتجاري محدود، في حين تُدار المؤسسات بعقلية الغنيمة والمحاصصة والولاء.
في هذا الإطار، أصبحت الثقافة والفنون ترفا غير مرغوب فيه لأنها لا تسهم في إعادة إنتاج الانضباط الاجتماعي، بل تذكّر الناس بما فقدوه من هوية وانفتاح.
ما يبدو كتحطيم تماثيل أو تقييد أنشطة موسيقية ليس فعلا عشوائيا، بل انعكاس لسقوط المرجعية القيمية للدولة الحديثة ومهام التنوير التي عرفتها سوريا منذ الاستقلال.
حين تُستبدل رموز الذاكرة الجماعية بمشروعات تجارية، وتُغلق المعاهد الموسيقية بينما تظهر أنشطة دينية مكثفة في المساجد فنكون أمام سياسة عامة غير مُعلنة عبر إعادة تعريف المواطنة على أساس الطاعة بالمفهوم الديني للمجموعات الجهادية لا المشاركة، والهوية على أساس الانضباط لا الإبداع.
من دولة الرعاية إلى سلطات الردع
يمكن قراءة التحولات الأخيرة باعتبارها انتقالا من نموذج “الدولة الراعية” إلى نموذج “السلطات الرادعة”،
ففي العقود الماضية، كانت الدولة المركزية تستمد جزءا من شرعيتها من رعايتها للثقافة والتعليم والرموز الوطنية، أما اليوم، فإن السلطات المحلية الجديدة تسعى لتثبيت وجودها عبر تطبيع الصمت وتحويل الخوف إلى عرف اجتماعي، بوصفه الضامن الأكيد للاستقرار.
تحطيم التماثيل أو إغلاق الفضاءات الفنية لا يحتاج إلى قرار مكتوب أو ميزانية، بل إلى مناخ سياسي وثقافي يسمح به، وهذا المناخ يتشكّل من مجموعة سياسات عامة تتقاطع فيها الاعتبارات الأمنية والدينية والاقتصادية، أبرزها:
- تفريغ المؤسسات الثقافية والتعليمية من كوادرها المستقلة وإحلال الولاء محل الكفاءة.
- تديين المجال العام عبر تشجيع خطاب محافظ يكرّس الطاعة ويضيق على حرية التعبير.
- خصخصة الذاكرة العامة بحيث تصبح الرموز والمناسبات أدوات لتكريس الانتماءات المحلية أو الفئوية بدل الوطنية الجامعة.
- تقييد الفضاء المدني وتحويل أي نشاط ثقافي إلى شأن إداري مرخّص ومراقب.
ما يتحطم في الساحات والمعاهد ليس الفن وحده، بل صورة الدولة الحديثة نفسها، التي تخلّت عن دورها كمُنتِج للمعنى لصالح سلطات تمارس الإدارة دون مشروع، والرقابة دون رؤية.
تفكيك الرموز: حين تصبح الثقافة خطرا عاما
في معظم التجارب الانتقالية، تُستَخدم الثقافة كأداة للمصالحة الوطنية وترميم النسيج الاجتماعي، لكن في الحالة السورية الراهنة، يجري التعامَل الثقافة بوصفها خطرا على الاستقرار الرمزي للسلطات الجديدة، فالتماثيل تمثّل الذاكرة المشتركة، والموسيقى تمثّل الحرية الفردية، وهذان المفهومان يقفان على النقيض من الخطاب الديني الذي يسعى إلى احتكار تعريف الهوية والوطنية على نحوٍ أحادي ومغلق.
وحين تُدمَّر الرموز أو تُخنق الفنون، يتم إرسال إشعار ضمني إلى المجتمع لتوقّف عن الحلم، لأن الجمال ليس أولوية في زمن السيطرة.
هنا يتضح الفارق بين سلطة تخاف الرموز لأنها تهدد سرديتها، وسلطة تحتوي الرموز لأنها توسّع أفقها الشرعي والمعنوي، وسوريا الجديدة، في صورتها الحالية، تبدو أقرب إلى النموذج الأول لأن السلطات تسعى إلى الاستقرار عبر الخوف، لا عبر بناء الثقة.
التحطيم كلغة سياسية
لا يمكن فهم ما يجري في حلب أو دمشق أو إدلب بمعزل عن مسار أوسع لإعادة تشكيل المجال العام في سوريا، فحوادث التحطيم، سواء استهدفت التماثيل أو الموسيقى أو النشاط الفني، ليست مجرد قرارات إدارية، بل لغة سياسية متعمدة تعبّر عن أولويات المرحلة الجديدة.
حين يُستبدل الفن بالإذعان، يُختزل الوطن في سلطة محلية، والذاكرة في شعار.
والمفارقة أن هذا الانغلاق الثقافي يأتي في وقت يُفترض فيه أن تكون البلاد في طور إعادة البناء والانفتاح الاجتماعي بعد حرب طويلة.
إلا أن المؤشرات الميدانية تُظهر العكس، فإعادة الإعمار بدأت بانكماش الوعي لا باتساعه.
تُزال التماثيل، تُخمد الموسيقى، وتُعاد صياغة المجال الرمزي بحيث يتسق مع تصوّر واحد للهوية والانتماء.
تلك هي السياسة العامة في صيغتها العارية، مهما تجمّلت بخطاب “الترميم” أو “التنظيم” أو “الحفاظ على القيم.
من إدارة الدمار إلى إدارة الوعي
تكشف هذه الحوادث أن السلطات الجديدة في سوريا لم تعد تدير بقايا الدمار المادي فحسب، بل دخلت طور إدارة الوعي والرمز والمعنى.
فبدل أن تُبنى شرعيتها على التنمية والانفتاح، تُكرّس حضورها عبر التحكم بالرمزية الجماعية، بما في ذلك الرموز الجمالية والثقافية.
في غياب مشروع وطني جامع، تتحول السيطرة على المعنى إلى بديل عن السيطرة السياسية الكاملة.
السلطة التي تعجز عن إنشاء معهد موسيقي أو متحف، تجد في إزالة تمثال وسيلة لإثبات قدرتها على القرار.
لكنّ التاريخ لا يُكتب بهذا النمط من السيطرة؛ فحين تتخلى سلطة عن احترام الذاكرة، تبدأ بالتحول من كيان حاكم إلى آلية بقاء مؤقتة.
⚖️ تطوّر السياسات العامة في سوريا الجديدة
من الدولة الراعية إلى السلطات الرادعة – ومن إدارة الدمار إلى إدارة الوعي
المرحلة الأولى: استقرار رمزي
تُدار المؤسسات وفق منطق الولاء والمحاصصة، وتُقدَّم مظاهر حياة طبيعية دون إصلاح فعلي. الثقافة والفنون تُعدّ ترفًا غير مرغوب فيه.
المرحلة الثانية: تضييق المجال الثقافي
تُفرَّغ المؤسسات الثقافية والتعليمية من كوادرها المستقلة، وتُشجَّع خطابات محافظة تقيّد الإبداع وتُعيد تعريف الهوية وفق الطاعة والانضباط.
المرحلة الثالثة: الردع الرمزي
تُستبدل رموز الذاكرة بمشروعات تجارية، ويُعاد تشكيل الفضاء العام بحيث يُفرغ من دلالاته الثقافية، فيتحول الخوف إلى عرف اجتماعي.
المرحلة الرابعة: إدارة الوعي
تتحول السلطة من إدارة الدمار المادي إلى إدارة المعنى والرمز. تُخنق الفنون وتُفرغ الذاكرة الجمعية لضمان استقرار بلا مشاركة.
🎭 خلاصة: السلطة الجديدة لا تُعيد بناء الجدران فقط، بل تُعيد هندسة الوعي الجمعي.

