شطب اسم أحمد الشرع من قوائم الإرهاب: كيف تغيّر موقع سوريا بين موسكو وواشنطن بعد حرب غزة؟

مجلس الأمن وشطب اسم أحمد الشرع من قوائم الإرهاب

في السياسة الدولية، لا تتغير الأمم كما تتغير تضاريسها، بل تتبدل التصنيفات التي تصنع معناها، وسوريا التي ظلت لعقدين رمزا للفوضى والخراب تعود اليوم إلى طاولة العالم، لا بوصفها دولة فاشلة، بل كحالة جغرافية يعاد تعريفها من جديد.

مجلس الأمن يستعد لمناقشة قرار شطب اسم الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وعدد من أركان حكمه من قوائم الإرهاب الأممية، في جلسة مغلقة تغيّر موقع دمشق في خريطة الشرعية الدولية.

القرار ليس تفصيلا إداريا؛ إنه أشبه بتعديل في خريطة القوة، لأن القوائم الأممية لا تُعيد توزيع البراءة والذنب، بل تُعيد رسم حدود النفوذ بين الكبار، فحين تُزال صفة الإرهاب عن رأس الدولة، لا يُطوى ملف قانوني، بل يُعاد تعريف الخطر نفسه، ويُعاد ترتيب من يملكه ومن يحدده.

واشنطن وبراغماتية التراجع

منذ سقوط النظام السابق وبروز حكومة الشرع، تعاملت واشنطن مع سوريا كملف ثانوي في معادلة كبح إيران، لا ككيان يستحق رؤية مستقلة، لكنها اليوم، بعد حرب غزة وتصلب الجبهات في أوكرانيا، تنظر إلى الشرق الأوسط بعين متعبة من الأيديولوجيا، فإدارة ترامب الثانية تبحث عن استقرار رخيص الثمن، وعن مساحة هادئة في خريطةٍ تشتعل في كل اتجاه.

هكذا يظهر مشروع شطب الأسماء لا بوصفه اعترافا أخلاقيا، بل حركة محسوبة في لعبة التوازن، وتريد واشنطن أن تجرّ سلطة دمشق من هامش العزلة إلى دائرة الوظيفة، وأن تتحول من متهمة إلى وسيط، ومن خطر إلى ضابط إيقاع، وفي السياسة الأميركية لم يعد الفوز هدفا، بل إدارة التراجع بانضباط.

موسكو والقلق من فقدان الامتياز الإمبراطوري

لكن موسكو لا تقرأ الخطوة بالمنظار ذاته، فروسيا التي جعلت من سوريا بوابتها إلى البحر المتوسط تدرك أن شطب الأسماء بقرار ترعاه واشنطن يعني إعادة الملف السوري إلى المدار الغربي، وبالنسبة للكرملين، ليست القضية أسماء على ورق، بل رمزية القرار ذاته؛ من يملك حق إعادة تعريف دمشق، من يحدد لحظة عبورها من المتهم إلى الشريك.

في عقل الدولة الروسية، الاعتراف الغربي بسوريا الجديدة ليس انتصارا لدمشق، بل نزع بطيء للنفوذ الروسي الذي شُيّد بالنار والعتاد، لذلك يبقى شبح الفيتو الروسي قائما، لا رفضا للمضمون، بل احتجاجا على الجهة التي تُعلن الغفران، وفي كل مرة يرفع فيها الغرب اسما من قائمته، يشعر الكرملين أن التاريخ يُكتب من جديد، من دون أن يُستشار.

الصين: بين الإيغور والحرير

أما الصين، فهي تنظر إلى سوريا من نافذتين، الأولى أمنية، إذ تخشى من تسرب المقاتلين الإيغور عبر الشمال السوري إلى أراضيها، والثانية اقتصادية، ترى في سوريا عقدة ممكنة في طريق الحرير الجديد.

الصين لا تصادق ولا تعادي؛ إنها تمارس فضيلتها القديمة: الانتظار، فكل تأجيلٍ في مجلس الأمن يمنحها مساحة إضافية للتوغل الاقتصادي، وسوريا بالنسبة لها ليست ملفا أمنيا بقدر ما هي ممر جيوبولوتيكي بين المتوسط وآسيا الوسطى، بين الحرب والربح.

الجغرافيا التي تقاوم الخرائط

لكن المشهد داخل سوريا أبعد عن أي هندسة مثالية، فالدولة التي يراد إخراجها من قوائم الإرهاب لا تزال منقوصة السيادة، محصورة في دمشق وما حولها، تحكمها مراكز سلطة متوازية، وتتقاطع فيها الأجهزة الأمنية الجديدة مع زعماء الميليشيات، وتتنازعها الولاءات الإقليمية، فالجغرافيا السورية ما زالت أكبر من الدولة وأقوى منها.

إن القرار الأممي لن يعيد لسوريا وحدتها المفقودة، لكنه سيمنح السلطة الحالية اعترافا رمزيا بقدرتها على البقاء، وهذا وحده نوع من الشرعية في عالمٍ تُقاس فيه الدولة بمدى ولاءها للغرب واسرائيل، لا بمدى اكتمالها، فالأمم الممزقة لا تموت، بل تتحول إلى مساحات رمادية تتفاوض فيها الجغرافيا مع التاريخ على حق الوجود.

العرب وبراغماتية الخوف

في العواصم العربية، يتبدل الموقف من السلطة في دمشق كما تتبدل الرياح في الصحراء، فبعد حرب غزة، لم تعد المسألة تتعلق بالعداء أو المصالحة، بل بالخوف من الفراغ، والسعودية وقطر وتركيا التي تنازعت النفوذ في سوريا لسنوات صارت ترى في بقاء الدولة أهون من سقوطها، حيث انتهى زمن الأيديولوجيا، وبدأ زمن الجغرافيا.

الدعم العربي لشطب الأسماء لا يعكس حماسا لسوريا، بل رغبة في تحييدها، فكل استقرار للسلطة في دمشق هو ضمانة لعدم اشتعال حواف الإقليم، وفي لغة الأمن الإقليمي، الدولة الضعيفة أفضل من الميليشيا القوية، والخصم القابل للتفاهم أقل خطرا من الحليف المنهار.

تعريف جديد للشرعية

شطب الأسماء لا يفتح أبواب الاستثمار، لكنه يفتح أبواب الاستخبارات، فسلطة دمشق، بمجرد خروجها من قوائم الإرهاب، تصبح جزءا من شبكة الأمن الدولية، وشريكا مشروطا في مكافحة الجماعات العابرة للحدود. الشرعية الجديدة ليست سياسية بل وظيفية؛ تُمنح لمن يستطيع أن يكون جدارا ضد الفوضى.

إنها لحظة نادرة في العلاقات الدولية، حيث يُمنح الاعتراف لا على أساس القيم، بل على أساس الحاجة، فالعالم الذي يرفع اليوم اسم أحمد الشرع من قائمته، لا يفعل ذلك حبا بسوريا، بل لأنه بات يحتاجها في ضبط الفوضى التي ساهم هو نفسه في خلقها.

إعادة تعريف الإرهاب في النظام الدولي

القرار المقترح لا يعيد تعريف سوريا وحدها، بل يعيد تعريف الإرهاب نفسه، فالقوائم التي كانت يوما معيارا أخلاقيا تحولت إلى أدوات سياسية لإعادة توزيع الشرعية بين القوى الكبرى، والاسم الذي يُشطب أو يُضاف لا يخضع للمحكمة بل للموازين، ومن يملك سلطة التسمية يملك سلطة التاريخ.

حين تتحول مفردة الإرهاب من حكمٍ قانوني إلى وظيفة سياسية، تصبح السياسة ذاتها فعل إعادة هندسة للمعاني، فالدولة التي كانت تُدان بالأمس تُستدعى اليوم لتكون حارسا للبوابات نفسها التي كانت متهمة باختراقها، وهكذا تعود مصالح الدول الكبرى لتنتصر على الأخلاق، وتعود الخرائط لتكتب السردية من جديد.

حين تكتب الجغرافيا الشرعية

في النهاية، لا يدور الأمر حول أسماءٍ تُمحى من قوائم الأمم المتحدة، بل حول خرائط تعيد تعريف نفسها، فحين ترفع القوى الكبرى تهمة الإرهاب عن رأس الدولة، فهي لا تبرّئها بقدر ما تدمجها في لعبةٍ أكبر؛ لعبة الخطر التي تصنع حدود القوة وتعيد رسم العالم وفق مصالحها.

سوريا اليوم ليست دولة مكتملة، لكنها ليست فراغا أيضا، إنها المرآة التي يرى فيها العالم صورته حين ينظر إلى الشرق الأوسط، حيث الفوضى التي تلد نظاما، والنظام الذي يتغذى من الفوضى، وهنا فقط، يفهم المرء أن الجغرافيا لا تموت، بل تنتظر من يقرأها.

الخريطة الجيوسياسية لسوريا بين القوى الدولية
📊 الخريطة الجيوسياسية: سوريا بين القوى الدولية
اللون الأحمر: روسيا والقلق من فقدان النفوذ الإمبراطوري
اللون الأزرق: الولايات المتحدة واستراتيجية إدارة التراجع
اللون الأصفر: الصين والمصالح الاقتصادية عبر طريق الحرير
اللون الأخضر: الدول العربية وبراغماتية الخوف من الفراغ
اللون البنفسجي: سوريا والبحث عن الشرعية الوظيفية الجديدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *