في الثامن من كانون الأول 2024، لم يكن المشهد السوري محليا فحسب، فالتاريخ الذي شهد بداية التحوّل السياسي الأخطر منذ أكثر من نصف قرن، فتح الباب أمام مشروع أعمق من مجرد إعادة توزيع السلطة، فكان إعادة تعريف ما معنى أن تكون سوريا.
أول لبنة في هذا المسار كانت المدرسة، فحين تمسّ الدولة مناهجها، فهي لا تعيد طباعة الكتب، بل تعيد تشكيل المخيلة الجماعية، حيث تصبح المناهج مرآة السلطة الجديدة، ومختبرا لشرعيتها.
السؤال الجوهري الذي يُفترض أن يطرحه أي باحث في السياسات العامة: هل تغيير المناهج السورية اليوم هو إصلاح تربوي حقيقي؟ أم هو إعادة هندسة سياسية للذاكرة الوطنية؟
إصلاح أم إعادة ترميز سياسي؟
منذ الإعلان عن مراجعة شاملة للمناهج التعليمية في مطلع 2025، سارعت وزارة التربية إلى تبرير الخطوة بعبارات من قبيل “إزالة رموز النظام السابق” و”تصحيح التشوه التاريخي”، لكن هذا التبرير المزدوج، التطهيري والوطني، يحمل في طياته تناقضا جوهريا، فإذا كان الهدف هو “التحديث”، فلماذا تبدأ العملية بالحذف لا بالبناء؟ وإذا كانت الغاية هي “التصحيح”، فمن الذي يملك حق تعريف ما هو صحيح في التاريخ الوطني؟
لا يمكن لأي عملية إصلاح أن تكون ذات مصداقية ما لم تكن خاضعة لآليات حوكمة تشاركية، حيث تتفاعل الدولة والمجتمع ضمن أطر شفافة تخضع للمساءلة والمعايير العامة.
في الحالة السورية، ما زالت هذه المعايير غائبة، فلا لجنة وطنية معلنة لمراجعة المناهج، ولا وثيقة سياسات تربوية جديدة تحدد فلسفة التعليم، وما يحدث، حتى الآن، هو ما يمكن تسميته بـ”إصلاح فوقي موجه بالرموز”، يبدّل اللغة والصور دون أن يراجع البنية الفكرية التي قامت عليها المناهج.
من رموز النظام إلى رموز الهوية الجديدة
بحسب القرارات الوزارية الصادرة في منتصف 2025، جرى حذف صور الرئيس السابق بشار الأسد، وأعلام الحزب الحاكم، وعبارات من قبيل “الحركة التصحيحية” و”القائد الخالد”.
لكن التعديل لم يتوقف عند حدود السياسة، بل امتد إلى التاريخ القديم أيضا، فشخصيات مثل زنوبيا أو الآراميين أو الكنعانيين تراجعت مكانتها في النصوص الدراسية، وفي المقابل، صعدت مفردات جديدة تعبّر عن انتماء ديني أو حضاري عام، مثل “الأخوة الإيمانية” بدلاً من “الأخوة الإنسانية”، و”في سبيل الله” بدلا من “في سبيل الوطن”.
إنها ليست مجرد مراجعة نصوص، بل إعادة رسم لحدود الذاكرة.
فالتاريخ هنا يُعاد إنتاجه كـ”سردية شرعية”، تصوغها السلطة الجديدة لتأسيس صورتها بوصفها الوريث الشرعي للمظلومية الوطنية.
ولذلك فإن الحذف لا يخلو من إضافة، فحين تمحو صورة القائد، تزرع مكانها رمزا آخر، وإن لم يُطبع بعد في الكتب، فإنه يُلقّن ضمنيا عبر لغة النص الجديدة.
هذا النوع من التغييرات يعكس ما يمكن نسميته “إزاحة معيارية (Normative Shift) وهو انتقال الدولة من منظومة قيم إلى أخرى، دون أن تنشئ بعد إطارا مؤسساتيا واضحا لذلك الانتقال، أي أن سوريا لا تزال في “منطقة رمادية” بين خطاب الثورة وخطاب الدولة.
أين الشفافية؟ وأين المشاركة المجتمعية؟
تُعد المشاركة المجتمعية شرطا جوهريا في أي إصلاح من منظور الحوكمة، ففي التجارب المقارنة، من فنلندا إلى جنوب أفريقيا، شكّل إشراك المعلمين والأهالي والخبراء والمجتمع المدني جزءا أساسيا من عملية إعادة بناء المناهج بعد الصراعات.
لكن في الحالة السورية، لم يُعلن عن أي نقاش وطني مفتوح أو لجنة مستقلة للمراجعة، حتى القرارات الوزارية التي نشرتها الصحف المقرّبة من الحكومة تفتقر إلى الملاحق التفصيلية التي تُبيّن ما الذي حُذف تحديداً؟ وما المبرر البيداغوجي؟ وما هو البديل المقترح؟
هذه الحالة هي “حوكمة مغلقة بمعايير استنسابية، فالدولة تدّعي الامتثال لمعايير الإصلاح الحديثة (الشفافية، المشاركة، العدالة المعرفية)، لكنها تُمارس العملية ضمن دوائر مغلقة لا يمكن تقييمها من الخارج.
وهنا يظهر الخطر فيتحول “الإصلاح” إلى “إعادة تهيئة”، حيث يُستبدل خطابٌ سلطوي بخطابٍ آخر دون تغيير المنهجية التربوية نفسه، بل بنسف كل هدف للتعليم.
الحوكمة التعليمية والشرعية السياسية
في الأنظمة الخارجة من الصراع، تمثل المناهج التعليمية أحد أكثر مجالات السياسات حساسية، لأنها ترتبط مباشرة بشرعية السلطة الجديدة.
فالدولة التي تكتب كتب التاريخ تكتب أيضا سرديتها عن النصر والهزيمة، وعن الخيانة والبطولة، وعن من يستحق أن يُذكر ومن يُنسى.
إن حذف مادة “التربية القومية” التي كانت لعقود أداة تأطير سياسي للحزب الواحد خطوة باتجاه تفكيك المركزية الإيديولوجية، لكنها، في الوقت نفسه، تكشف فراغا في تعريف ماهيّة المواطن الجديد، فهل سيُبنى هذا المواطن على أسس المواطنة الحديثة، أم على أسس دينية محددة – أخلاقية بديلة؟
التحولات اللغوية في المناهج (من الوطن إلى الله، ومن التاريخ القومي إلى التاريخ الإيماني) توحي بأن الهوية الجديدة ما زالت قيد التشكل، وأن الصراع على الذاكرة لم يُحسم بعد.
هذا النمط من السياسات يسمى شرعية الأداء (Performance Legitimacy)، فالسلطة تبرّر قراراتها بإظهار قدرتها على “إصلاح ما فسد”، لا بالضرورة عبر المشاركة الديمقراطية، ويبدو أن إصلاح المناهج في سوريا يهدف أكثر إلى إقناع الجمهور بجدارة الحكم الجديد منه إلى تأسيس منظومة تعليمية متكاملة.
بين المعايير الدولية والخصوصية الوطنية
يتحرك إصلاح المناهج في سوريا ضمن بيئة مشحونة بالانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية، واشتراطات المانحين الدوليين.
وأشارت بعض التسريبات إلى مشاورات أولية مع منظمات دولية لتحديث المناهج وفق “المعايير العالمية للتعليم الأساسي”، لكن هذه المبادرات تصطدم دائماً بمفهوم “الهوية الوطنية” التي تريدها السلطة الجديدة.
إن تفاعل المعايير الدولية مع الهويات المحلية ينتج غالبا التوطين الانتقائي للمعايير Selective Localization، فالنظم السياسية تتبنّى بعض المعايير الدولية لتكسب شرعية خارجية، لكنها تعيد تفسيرها محلياً بما يخدم مشروعها السياسي.
وهذا ما نراه اليوم، فالسلطة تتحدث بلغة التحديث والتطوير، لكنها تُمارس التغيير ضمن أطر مغلقة، وتُبقي على غموضٍ مقصود في هوية الدولة التعليمية.
أثر التغيير على الوعي الجمعي
التاريخ المدرسي ليس ذاكرة محايدة. إنه وثيقة تصوغ علاقة الأجيال ببلادهم.
حين تُحذف زنوبيا، يبهت البعد النسوي في الهوية الوطنية، وحين يُمحى اسم حلب من خريطة الصمود، تفقد المدينة موقعها الرمزي في الذاكرة الجماعية، كل تعديل، مهما بدا بسيطا، يعيد توزيع الضوء والظل على خريطة التاريخ، فحين يُمحى اسم صالح العلي من ذاكرة المناهج، يُطمس أحد أبرز وجوه المقاومة في تاريخ الساحل السوري، وحين يُوصم شهداء السادس من أيار بعمالة مزعومة، تُشوَّه ملامح البطولة في الوعي الوطني، وحين يُستبدل التاريخ بأسماء غريبة عن الأرض، تفقد الهوية جذورها في الذاكرة الجمعية. فكل حذفٍ، مهما بدا تفصيلاً، هو إعادة رسمٍ لخريطة المعنى، وتوزيعٍ جديدٍ للضوء والظل على صفحات التاريخ. وما خفي من الإلغاءات أكثر، لأنّ “التكتم بات قاعدةً، والطمس منهجاً”.
التحليل الكيفي لمضامين المناهج الجديدة (وفق تقارير “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”) يُظهر أن الدولة تسعى إلى خلق “سردية نظيفة” تخلو من النزاعات السياسية الحديثة، لكنها – بذلك – تُنتج وعياً منزوع التجربة.
ما الذي يُفترض أن يحدث؟
لكي يكون الإصلاح التربوي السوري ذا شرعية حقيقية، لا بد أن يخضع لمجموعة معايير واضحة، منسجمة مع “المعايير المزدوجة للشرعية” (Dual Legitimacy Standards):
- شرعية داخلية تقوم على المشاركة المجتمعية، والشفافية في القرارات، وتمكين المعلمين والخبراء.
- شرعية خارجية تقوم على التزام الدولة بالمعايير الدولية للتعليم وحقوق الإنسان، بما في ذلك حرية الفكر وتعددية الرواية التاريخية.
ما تحتاجه سوريا ليس “تصفية رموز” بل “إعادة بناء سردية وطنية جامعة، فمن دون ذلك، ستبقى المناهج الجديدة مجرّد “سرد رسمي بديل”، لا مشروع وطني جامع.
المستقبل بين نصّين
ليست المناهج السورية الجديدة سوى فصل أول في صراع طويل على الذاكرة، فالسلطة التي تمحو الماضي لتكتب المستقبل، تنجح في إعادة بناء الشرعية مؤقتا، لكنها تفقد أهم شرط من شروط الاستقرار الدائم؛ التوافق على المعنى.
أي نظام يريد أن يُبنى على أسس مستدامة يجب أن يوازن بين الهوية الوطنية والمعايير الكونية، وبين الحقيقة التاريخية وحقّ الدولة في السرد.
إصلاح المناهج السورية
بين بناء الدولة وإعادة هندسة الوعي – رسم بياني تفاعلي
التغييرات الرئيسية في المناهج
ما تم حذفه:
- صور الرئيس السابق بشار الأسد
- أعلام الحزب الحاكم
- عبارات “الحركة التصحيحية” و”القائد الخالد”
- تراجع التركيز على شخصيات مثل زنوبيا والآراميين والكنعانيين
ما تم إضافته:
- “الأخوة الإيمانية” بدلاً من “الأخوة الإنسانية”
- “في سبيل الله” بدلاً من “في سبيل الوطن”
- تركيز أكبر على الانتماء الديني والحضاري العام
التحديات الرئيسية:
- غياب المشاركة المجتمعية والشفافية
- عدم وجود لجنة وطنية معلنة لمراجعة المناهج
- عدم وضوح فلسفة التعليم الجديدة
- التأرجح بين خطاب الثورة وخطاب الدولة


التخبط واضح في المناهج، ما حصل هو استحضار المنهاج الذي يدرس في إدلب بدليل وجود عبارات ” ماتزال الثورة مستمرة” وعدم الاشارة لسقوط النظام ؛
المعلمون مستبعدون عن المناهج وتم ممارسة ضغوط عليهم من قبيل تخفيض نصاب التدريس وبالتالي الذهاب لأكثر من مدرسة ..
نقابة المعلمين ما زالت تراوح في غياب الفاعلية..
للأسف هناك تعتيم كبير على آلية وضع المناهج والمعايير المتبعة