تعيينات الولاء في سوريا: كيف تحوّل جهاز الرقابة المالية إلى أداة للفساد؟

في اقتصادٍ تآكلت مؤسساته تحت ضغط الحرب والسياسة والفساد، لا تأتي التعيينات في المناصب العليا في سوريا كتعبير عن الكفاءة، بل كمؤشر على اتجاه السلطة ذاتها؛ من الحوكمة إلى “الغنيمة”.

تعيين محمد عمر قديد، المعروف بلقبه “أبو عبد الرحمن الزِّرْبَة”، رئيسا لجهاز الرقابة المالية في المصرف المركزي، ليس حدثا إداريا عابرا، بل تجسيد لانهيار مفهوم الرقابة ذاته، وتحويلها إلى أداةٍ بيد السلطة والفصيل، بدل أن تكون سلطة رقابة على النظام.

منذ سنوات، تنبّه الاقتصادي دانييل كوفمان، مهندس مؤشرات الحوكمة العالمية في البنك الدولي، إلى حقيقة بسيطة ومقلقة فـ”حين تُختطف المؤسسات الرقابية، تسقط الدولة من داخلها”، فالحوكمة ليست في وجود أجهزة رقابة شكلية، بل في من يُديرها، وبأي استقلال، ولأي غاية.

في الحالة السورية، يبدو أن هذا الاختطاف بلغ ذروته في تعيين رجلٍ من صلب “اقتصاد الحرب” على رأس مؤسسةٍ يُفترض أن تحمي المال العام من النهب والتسييس.

من الفرن إلى المصرف: سردية السقوط المؤسسي

لم يكن الزِّرْبَة خبيرا مصرفيا، ولا اقتصاديا، ولا حتى موظفا حكوميا في أي مرحلة من حياته السابقة، فكان يعمل خبّازا في بلدة دركوش بريف إدلب، ومع اشتعال الصراع، التحق بجبهة النصرة مرافقا لعبد الرحيم عطّون، ثم انتقل إلى إدارة “مكتب الغنائم” في الفصيل ذاته، حيث اكتسب ما يمكن تسميته “خبرته المالية” من عدّ المسروقات وتوزيعها وفقا لـ”الشرع الثوري”.
مع الوقت، ترقّى ليصبح أحد أبرز الوجوه الاقتصادية لهيئة تحرير الشام، يُدير المعابر والجبايات وشركات المحروقات، ويُشرف على منظومة مالية هجينة تمزج بين “الجباية باسم الدين” و”الاحتكار باسم الثورة”.

هذا المسار لا يمكن وصفه بأنه انتقال مهني، بل بنيوي للفساد من الهامش إلى القلب، فالرجل الذي تعلّم الحساب في “مكتب الغنائم” صار اليوم مسؤولا عن جهاز يُفترض أنه يراقب مالية الدولة، وهذه ليست مفارقة ساخرة، بل تعبير عن انهيار العمود الفقري لما تبقّى من المؤسسات السورية.

الحوكمة كواجهة، والولاء كبنية

في أي نظام سليم، يُعدّ جهاز الرقابة المالية صمّام أمان الاقتصاد الوطني، فهو المؤسسة التي تضمن الفصل بين القرارين السياسي والمالي، وتحمي المال العام من سوء الإدارة أو سوء النية، لكن في الأنظمة المتآكلة، تتحول الرقابة إلى ذراعٍ للسيطرة السياسية، وتصبح التعيينات وسيلة لإضفاء شرعية شكلية على ولاءات مضمونة.

تعيين الزِّرْبَة في موقعه الجديد يُعبّر عن هذا التحوّل العميق، فالسلطة لم تعد تبحث عن الكفاءة، بل عن الولاء، ولم تكتف بتقويض استقلالية المصرف المركزي، بل ذهبت إلى تسليح الرقابة نفسها، وتحويلها إلى أداة إخضاع للبيروقراطية المالية وللخبراء القلائل الذين ما زالوا يحاولون العمل وفق القواعد.
هذا النمط من التعيينات يعكس ما يسميه كوفمان بـ”الاستيلاء على الدولة (State Capture)” حين تتحول المؤسسات إلى أدوات في يد شبكة مصالح مغلقة، تتداخل فيها السياسة بالمال، وتُدار وفق منطق المحاصصة لا المصلحة العامة.

اقتصاد الحرب و”التبييض المشروع

مصادر متعددة، محلية ودولية، تحدثت عن دور الزِّرْبَة في إنشاء شبكات مالية لتبييض أموال هيئة تحرير الشام، عبر شركات مثل “كاف” و “وتد” اللتان استخدمتا كواجهاتٍ تجارية لإعادة تدوير أموال الجبايات والمعابر، تشير تقارير إلى تورّطه في اختلاس ما يزيد عن13  مليون دولار من أموال التجار في إدلب، وهي تهم لم تنكرها الهيئة، بل احتوتها داخليا بآلية تُذكر بنظام “التحكيم الثوري” الذي يمنح الولاء حصانة ضد المساءلة.

حين تنتقل هذه الذهنية إلى المصرف المركزي، تتحول الرقابة إلى عملية تبييض شرعية لاقتصادٍ فاسد، لا إلى كشفه، يصبح جهاز الرقابة واجهة لتكريس الفساد بدل محاربته، فيتحوّل الفساد للتحرك تحت غطاء الشرعية القانونية.

من الحوكمة إلى الجباية: انزياح المفاهيم

الزِّرْبَة لا يُمثّل حالة فردية، بل حلقة ضمن سلسلة طويلة من التعيينات التي تكرّس نموذج “الرجل المناسب للولاء المناسب”، فقبله، شَهِدَت سوريا تعيينات مماثلة في قطاعات حساسة:

  • مسؤولون أمنيون سابقون تولّوا إدارة مؤسسات اقتصادية.
  • رجال دين أو مقاتلون سابقون أصبحوا أعضاء في مجالس محلية أو إدارات مصرفية.
  • شبكات مرتبطة بالمخابرات سيطرت على شركات محروقات واتصالات.

في كل هذه الحالات، كانت الكفاءة تُستبدل بالولاء، وتُقايض المؤسسات بالسيطرة، إن تعيين شخص مثل الزِّرْبَة على رأس جهاز رقابي ليس خللا إداريا، إنه إعلان صريح عن نهاية مبدأ الحوكمة في سوريا، أنها ليست شعارا تقنيا، إنما علاقة ثقة بين المواطن والدولة، وحين يُخترق المصرف المركزي، وهي المؤسسة التي تضبط علاقة الدولة بالمال، فإن ما يُخترق هو العقد الاجتماعي ذاته.

الرقابة كمرآة للشرعية

في التحليل للمؤسسات، يمكن قياس شرعية أي نظام من خلال طبيعة أجهزته الرقابية، من يعيّنهم؟ من يراقبهم؟ ومن يحاسبهم؟
في سوريا لم يعد ثمة فصل بين المُراقِب والمُراقَب، فنفس الشبكة التي تفرض الجباية هي التي تشرف على “الرقابة”، والأشخاص الذين يديرون السوق السوداء يُحدّدون أسعار الصرف الرسمية، وتتحوّل الدولة إلى حلقة مغلقة من المحاسبة الذاتية، لا يمكنها أن تنتج إصلاحا أو ثقة أو استقرارا نقديا.

في الحالة السورية، بدأت هذه الدوامة منذ سنوات، لكنها اليوم بلغت نقطة اللاعودة، فحين يصبح “رجل الغنائم” مسؤولا عن الرقابة، فإن الرسالة إلى الجميع واضحة؛ النزاهة ليست مؤهلا، بل تهديدا.

أثر التعيينات على الاقتصاد الكلي

اقتصاديا يؤدي هذا النمط من التعيينات إلى تآكل ما تبقّى من استقرار نقدي، فالمستثمرون المحليون والأجانب يقرأون هذه الإشارات بسرعة، فحين تُسَيَّسُ مؤسسات الرقابة، تتراجع الثقة في العملة الوطنية، وتُستبدل بها العملات الأجنبية أو البدائل الرقمية، وتتضخم السوق الموازية.
العملة لا تفقد قيمتها بسبب السياسات النقدية الخاطئة فقط، بل حين تفقد المصداقية المؤسسية للجهة التي تصدرها وتراقبها. وهذا بالضبط ما يحدث اليوم.

التعيينات المبنية على الولاء لا تنتج تضخما رقميا فقط، بل تضخما في انعدام الثقة، وعندما يختلط الفساد بالجهل، تصبح النتائج كارثية على المدى المتوسط عبر انهيار الودائع، وتآكل المدّخرات، وهروب رؤوس الأموال، وتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي غير مصرفي، أي “اقتصاد الجيوب”.

بين “اقتصاد الحرب” و”اقتصاد الولاء”

تجربة الزِّرْبَة تعكس التحوّل من اقتصاد الحرب الذي كان يُدار عبر الغنائم والجبايات والمعابر إلى اقتصاد الولاء، حيث يتم دمج شبكات اقتصاد الحرب في البنية الرسمية للدولة، وهذه العملية ليست مصالحة ولا إصلاحا، بل استيعابا للفساد داخل النظام المالي الرسمي.
النتيجة هي دولة هجينة فلا هي مركزية ذات سيادة مالية، ولا سلطة فصائلية صريحة، بل خليط من البيروقراطية القديمة وذهنية الميليشيا الجديدة، تُدار بمفردات “الرقابة” لكنها تُمارس بمنطق “الجباية”.

من الغنيمة إلى الدولة

لا يمكن بناء دولة أو استعادة اقتصاد دون مؤسسات رقابية مستقلة، المال ليس أداة السلطة، بل مقياسها،
وتعيين محمد عمر قديد على رأس جهاز الرقابة المالية ليس مجرّد خلل إداري، بل تخل كامل عن الحوكمة، فهو إعلان عن نهاية الفكرة التي تقول إن الدولة تملك مؤسساتها، وبداية مرحلة جديدة تصبح فيها المؤسسات ملكا لمن يملك الولاء.

بقاء مثل هذه التعيينات بلا مساءلة يعني أن سوريا تتجه نحو نموذج “الاستبداد المالي”، حيث تتحوّل السياسة النقدية إلى وسيلة ضبط اجتماعي، لا أداة إصلاح اقتصادي.
المشكلة لن تعد في التضخم أو العجز أو سعر الصرف، بل في فقدان الثقة وهي، كما أثبتت كل تجارب ما بعد الصراع، العملة الوحيدة التي لا يمكن للدولة أن تطبعها من جديد.

تحول الحوكمة إلى غنيمة في سوريا

التعيينات في سوريا: حين تتحوّل الحوكمة إلى غنيمة

في اقتصادٍ تآكلت مؤسساته تحت ضغط الحرب والسياسة والفساد، لا تأتي التعيينات في المناصب العليا في سوريا كتعبير عن الكفاءة، بل كمؤشر على اتجاه السلطة ذاتها؛ من الحوكمة إلى “الغنيمة”.

مسار محمد عمر قديد (أبو عبد الرحمن الزِّرْبَة)

تأثير التعيينات على الاقتصاد السوري

مسار التدهور المؤسسي

قبل الصراع

عمل خبّازاً في بلدة دركوش بريف إدلب

بداية الصراع

التحق بجبهة النصرة مرافقاً لعبد الرحيم عطّون

تطور المسار

انتقل إلى إدارة “مكتب الغنائم” في الفصيل ذاته

ترقي في المناصب

أصبح أحد أبرز الوجوه الاقتصادية لهيئة تحرير الشام

الوضع الحالي

تعيينه رئيساً لجهاز الرقابة المالية في المصرف المركزي

مقارنة بين الحوكمة السليمة والواقع السوري

الخلاصة

تعيين محمد عمر قديد على رأس جهاز الرقابة المالية ليس مجرّد خلل إداري، بل تخلٍ كامل عن الحوكمة. فهو إعلان عن نهاية الفكرة التي تقول إن الدولة تملك مؤسساتها، وبداية مرحلة جديدة تصبح فيها المؤسسات ملكاً لمن يملك الولاء.

بقاء مثل هذه التعيينات بلا مساءلة يعني أن سوريا تتجه نحو نموذج “الاستبداد المالي”، حيث تتحوّل السياسة النقدية إلى وسيلة ضبط اجتماعي، لا أداة إصلاح اقتصادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *