في الثاني من شباط 2025، خرجت نغم عيسى من بيتها ولم تعد.
كانت السماء رمادية، والمدينة هادئة على نحو يسبق العاصفة، وهاتفها انقطع عن الخدمة بعد ساعة، وفي المساء، تلقى والدها رسالة قصيرة من رقم مجهول: “نحن نريد المال مقابل ابنتك.”
لم يكن الخبر غريبا في بلد صار فيه الخطف جزءا من الحياة اليومية، لكنه كان مدمرا بالمعنى الشخصي، لأن كل ما تبقى من منطق في العالم ينهار عندما يصبح أحد أحبائك رقما في صفقة.
أمضت العائلة يومين في مفاوضات عبر وسطاء، فالمبلغ المطلوب كان أكبر من قدرتهم، وحين عجزوا عن الدفع، وصلت الصور من هاتف نغم نفسه لجسد مجهول الملامح، ووجه يبدو ميتا.
انتشرت الصور على صفحات فيسبوك مجهولة المصدر، تدعم الجماعات المسلحة في إدلب، وفي القرية الصغيرة، ساد الصمت، فالأم أغمي عليها، والجيران أقاموا عزاء، فالجميع ظن أن القصة انتهت.
لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيدا من الموت.
الصفقة الاولى
بعد أسبوع، باعت الجهة الخاطفة نغم لرجل مسن في إدلب، ولم يكن الرجل قاتلا ولا متعاطفا، بل تاجرا في سوق الظل، حيث تُشترى النساء كرهائن أو كضمانات، وأخذها إلى بيته، ثم ساوم أطرافا أخرى حولها.
في آذار، قرر تهريبها إلى لبنان، ولم يكن القرار نبيلا، فهو كان يبحث عن مكسب جديد، وبدأت الرحلة الثانية.
عبرت نغم الحدود بمساعدة مهربين، على ظهر شاحنة خضار، مختبئة تحت صناديق بلاستيكية، وفي الطريق، قالت لنفسها إنها خرجت من الجحيم، لكنها لم تكن تعرف أن الجحيم يتقن التناسخ.
الفيديو الوردي
بعد أيام من وصولها إلى لبنان، ظهر الفيديو.
كانت نغم ترتدي حجابا وجاكيتا زهريا، ووجهها شاحب، وصوتها يخرج ببطء كما لو أنه يطلب الإذن من الخوف.. قالت إنها بخير، وإن الهيئة لا علاقة لها بخطفها.
لم يكن أحد يعلم وقتها أن الرجل الذي هربها هو من أجبرها على التصوير.
قال لها إن والدها وأخاها اعتقلا في سوريا، وإن حياتهما مرهونة بما ستقوله أمام الكاميرا، وكانت تعرف أنه لا يكذب، فالكذب في مثل هذه البيئات ترف، والحقيقة وحدها هي السلاح.
تحدثت نغم كما طُلب منها، ثم أُرسل المقطع إلى حسابات مجهولة، وبعد ذلك، اختفى الرجل.
الهروب الى المجهول
في بيروت، ساعدتها عائلات لبنانية، لم تسألها كثيرا، واكتفت بإيوائها وإطعامها، وكانت نغم تكتب أحيانا على ورقة صغيرة: “أريد أن أعود انسانة عادية، لا قصة.”
في نيسان، خرج أخوها من السجن بعد أشهر من التعذيب.. كتفه مكسور، وجسده منهك، وهرب مع أشقائه الثلاثة إلى لبنان، وسكنت نغم معهم في غرفة صغيرة في ضاحية بيروتية مكتظة، وكانوا يعيشون في خوف دائم من أن يُكتشف أمرهم، لكنهم كانوا معا، وهذا وحده كان يعني الحياة.
الأب والام والتهديد
في آب، ظهر فيديو جديد يجلس فيه الأب والأم وطليق نغم وشقيقته أمام الكاميرا يقولون إن نغم بخير، وإن لا أحد آذاها، وإن ما يقال في الإعلام غير صحيح، لكن كل شيء في الفيديو كان خاطئا، من اللغة، والملامح، والصمت الذي سبق الكلام.
تبيّن لاحقا أن الأجهزة الأمنية التابعة للهيئة في إدلب اعتقلت الوالدين، وأجبرتهما على التصوير بعد نشر مقال في مجلة “The Spectator” للصحفي البريطاني بول وود، كشف فيه تجارة الخطف والابتزاز في مناطق شمال سوريا.
كان الفيديو تحذيرا: “تحدثوا مرة أخرى، وسنفعل أكثر من ذلك.”
الاختفاء الثاني
في 26 تشرين الأول 2025، اختفت نغم مرة أخرى، ولم تُطلب فدية هذه المرة، ولم يُنشر بيان ولم تظهر أي صورة، فقط فراغ جديد.
التحقيقات اللبنانية تقول إنها شوهدت آخر مرة قرب ضاحية الحدث، برفقة شخص لا يُعرف إن كان صديقا أم مراقبا.
المرجح، وفق تقارير حقوقية، أن جهة ما قررت إعادة خطفها لتشويه ملف المختطفات، وربما لمحو أدلة قضايا سابقة.
ما وراء نغم
ليست نغم حالة منفصلة، ففي أقل من عام سُجلت أكثر من مئة وأربع حالات خطف لنساء من الساحل وريف حمص وحماة والسويداء ودمشق وريفها. بينهن اثنتان وعشرون قاصرة، بعضهن فُدين بمبالغ ضخمة، وبعضهن اختفين إلى الأبد.
الاختطاف لم يعد مجرد جريمة فردية، بل صار اقتصادا قائما بذاته، ففي الفراغ الأمني، تتحول الجريمة إلى سلطة، والسلطة إلى شبكة مصالح، ولأن النساء هن الحلقة الأضعف، فهن العملة الأكثر تداولا.
في مثل هذه البيئات، لا توجد صدفة، فكل حركة، وكل اختفاء أو ظهور، هو جزء من لعبة أكبر.
اللغة التي نُسيت
في لقاء مع صديقة مقربة لنغم، قالت إنها كانت تحب اللغة الإنجليزية لأنها تجعل العالم أقل قسوة، وكانت تقول دائما: “في الإنجليزية يمكن للمرء أن يقول I miss you دون أن ينهار.” لكنها تعلمت لاحقا أن اللغات كلها عاجزة أمام الخوف.
الخطف لا يأخذ الجسد فقط، بل يعيد صياغة اللغة، ويجعل الكلمات تفقد معناها، بينما الـ”حرية” شعارا فارغا، وتتحول الـ”عدالة” إلى وعد لا يُنفذ، و”العودة” إلى أسطورة تروى لمن بقي ينتظر.
الخوف المستمر
لا أحد يعرف اليوم أين نغم، فالمنظمات الحقوقية تؤكد أن كل الوثائق المتعلقة بقضيتها محفوظة في خوادم آمنة، لكن ذلك لا يعني أنها آمنة، فالخوف في هذه القصص ليس حدثا عابرا، بل حالة دائمة.
يقول أحد المحققين العاملين في ملفها إن “القضية باتت أكثر تعقيدا مما تبدو عليه”، فهناك أطراف في سوريا ولبنان لها مصلحة في إسكات هذا الملف، وكلما زادت الضغوط الدولية، زادت محاولات الإخفاء.
بلد يختطف نساءه
في سوريا، أصبح الخطف شكلا من أشكال السيطرة، فالسلطات والمليشيات والخلايا المسلحة تتعامل معه كأداة سياسية واقتصادية، لكن ما يجعل الأمر أكثر قسوة هو الصمت الاجتماعي، فالضحايا يُعاملن وكأنهن مذنبات.
العار ينتقل من الخاطف إلى المخطوفة، وقصة نغم تفضح هذا المنطق، فهي حاولت النجاة مرتين، لكن لم يسمح لها بأن تكون ناجية، وعندما ظهرت في الفيديو الأول، لامها البعض لأنها “تبرأت من الهيئة”، وعندما اختفت مجددا، قال آخرون إنها “تورطت مع جهات أجنبية”، في الحالتين، كانت الحقيقة غائبة، والرحمة أبعد.
النهاية المفتوحة
القضية ما زالت قيد التحقيق، لكن التحقيقات لا تكتب النهايات، فمن يكتبها هو الزمن، أو الذاكرة، أو الخوف نفسه.
نغم، التي عادت من الموت، والتي حاولت الهرب من المجهول، أصبحت رمزا لبلد يلتهم أبناءه ثم يلومهم على الصراخ، فقصتها ليست عن الاختطاف فقط، بل عن المعنى:
متى يصبح الإنسان أكثر من سلعة في بازار الحرب؟
ومتى يحق للنجاة أن تكون بداية لا تهمة؟
ربما لن يُعرف مصير نغم قريبا، لكنها، حتى وهي غائبة، تترك وراءها سؤالا لا يختفي:
كيف يمكن لبلد أن يطلب الغفران من ضحاياه، بينما لا يزال يحتجزهم في صمته؟
نغم لم تختفِ حقا هي ما زالت هنا، في كل امرأة تسير وحدها في طريقٍ خافت الإضاءة، تنظر خلفها، وتواصل المشي رغم الخوف.
في عالمٍ يتغير شكله كل يوم، تبقى قصتها تذكيرا بأن النجاة ليست دائما نهاية سعيدة، بل أحيانا مجرد هدنة مع الجحيم.
الرسوم البيانية: تحليل بيانات ظاهرة خطف النساء في سوريا
بيانات مستمدة من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمصادر المحلية – تم تجميع البيانات بناءً على الحالات الموثقة

