مستقبل ترسيم الحدود اللبنانية-السورية: بين الجغرافيا والسيادة وتحولات الإقليم

بين عند التلال الممتدة من عرسال اللبنانية وإلى جرود القلمون السورية، ترتسم خطوط يصعب رؤيتها لكنها تقرّر مصير بلدين، فتلك المسافة التي يصعب على الأقمار الصناعية أن تميّزها بوضوح، وقعت حادثة تبدو عابرة، حيث منع الجيش اللبناني وحدة سورية من إقامة مركز مراقبة على تلة متنازع عليها.
لكن في الشرق الأوسط لا وجود للأحداث الصغيرة، فكل شبرٍ من الأرض مرآة لتاريخ مثقل بالتحوّلات، وكل تلة تروي صراع الهويات وحدود النفوذ.

خبر التوتر الحدودي ليس مجرد واقعة أمنية؛ إنه علامة على توازن هشّ يتأرجح منذ عقود بين دولتين ترتبطان بروابط العائلة، وتفصل بينهما خرائط رسمها آخرون، وحين يمنع الجيش اللبناني وحدة سورية من التمركز، فإن ما يمنعه ليس دخول عشرين “جنديا” فحسب، بل عودة التاريخ إلى ما قبل استقلال البلدين.

حدود لم تُرسم بوعي

لبنان وسوريا لم يعرفا يوما ترسيما فعليا ونهائيا للحدود، فالاتفاقات التي وُضعت في عهد الانتداب الفرنسي لم تتجاوز خطوطا إدارية لتوزيع النفوذ الفرنسي بين ولاياته، ولم تُترجم إلى حدود ذات سيادة دولية واضحة.

جرود عرسال والقلمون والهرمل التي تُرسم في الخرائط الرسمية على أنها “حدود”، لم تعرف يوما خطا فاصلا بالمعنى الجغرافي أو القانوني، فالرعاة والمزارعون والقبائل والحركات المسلحة، كانت تتنقّل على جانبي الجبل كما لو أنه فضاء واحد تتوزع فيه الولاءات لا الهويات.

حين اندلعت الحرب السورية، انفجرت هذه الحقيقة المكبوتة، فالحدود الشرقية للبنان لم تكن يوما جدارا، بل ممرا، عبرها المقاتلون واللاجئون والذخيرة والدخان، ومع كل موجة عبور، كانت الدولة اللبنانية تفقد جزءا من قدرتها على تعريف أين تنتهي حدودها.

في زمن ما بعد الحرب السورية، فإن لحظة منع الجيش اللبناني لتلك الوحدة العسكرية للسلطة في دمشق تبدو كإعلان رمزي عن بداية زمن جديد لاستعادة السيادة الوهمية، لكن في سياق متفجر.

الجغرافيا التي تُمسك بالمصير

روبرت كابلان كتب أن الجغرافيا ليست قدَرا، لكنها إطار القدَر، ومن يقرأ خريطة الحدود اللبنانية-السورية يدرك أن ما يجري عند جرود عرسال ليس سوى تجسيد لجغرافيا لا ترحم، فالجبال الممتدة على طول السلسلة الشرقية تجعل من الترسيم مهمة شبه مستحيلة، فهناك تضاريس وعرة، والممرات الطبيعية قليلة، والقرى الحدودية متداخلة إلى درجة يصعب فيها التفريق بين اللبناني والسوري إلا عبر اللهجة أو الولاء السياسي.

في الجنوب الشرقي، عند القاع والهرمل، تختلط الحقول والممرات الترابية مع الأراضي السورية، حيث كانت تتبدل السيطرة بين الجيش السوري، والقوى المحلية، في هذه الجغرافيا الرمادية، لا معنى لكلمة “حدود” سوى ما تفرضه القوة في لحظة معينة.

بين السيادة والواقع

منذ عام 2011، كان لبنان يعيش سياسة وُصفت بـ”النأي بالنفس” عن الحرب السورية، لكنها لم تكن سوى غطاء لعجزٍ واقعي عن السيطرة على الحدود، فحزب الله قاتل في القلمون إلى جانب الجيش السوري، فيما كانت فصائل المعارضة تتحصّن في جرود عرسال.
وهكذا، تحولت تلك الجرود إلى ما يشبه “المنطقة الرمادية” فكانت مساحة بلا سيادة، وبلا خريطة.

مع عودة الجيش اللبناني لفرض نفوذه التدريجي بعد معارك 2017 ضد “داعش” و”النصرة”، بدأت معالم الترسيم غير الرسمي بالظهور، واليوم، حين يقول مصدر أمني لبناني “لا نقبل بدخول أي عسكري سوري إلى الأراضي اللبنانية على طول السلسلة الشرقية”، فهو لا يعلن فقط موقفا سياسيا؛ بل يضع قاعدة لمرحلة ما بعد الحرب، حيث تعود الحدود لتُرسم بالأقدام قبل أن تُرسم بالاتفاقات.

غير أن المسألة أعقد من ذلك؛ فالتداخل الاقتصادي والاجتماعي بين جانبي الحدود، والوجود العسكري والعلاقة المتشابكة بين دمشق وبيروت، كلها تجعل من ترسيمٍ حقيقي عملية شديدة التعقيد، فهل يمكن ترسيم حدودٍ بين بلدين هما بالأساس متشابكي المصالح ودورة الحياة فيهما تكاد في بعض المناطق واحدة.

دمشق وبيروت: الحدود كمرآة للسلطة

من المنظور السياسي دمشق قبل السلطة الحالية، فإن الحدود اللبنانية-السورية لم تكن يوما خطا فاصلا، بل امتدادا طبيعيا للجغرافيا السورية التاريخية، فالنظرة السورية الكلاسيكية للبنان التي تراوح بين الأخوة والوحدة، وبين النفوذ والوصاية، تجعل من الترسيم الدقيق مخاطرة سياسية.
أما من منظور بيروت، فإن أي خطوة لترسيم الحدود تُعد إعلانا رمزيا للاستقلال الكامل عن القرار السوري، وهو ما تراه بعض القوى اللبنانية انتصارا، فيما تراه أخرى استفزازا غير محسوب، وتُصبح الحدود أكثر من مجرد خطٍ على الخريطة، إنما مرآة لمعادلة السلطة في الداخل اللبناني، وقياسا لمزاج سلطة دمشق الإقليمية.

إن حادثة جرود عرسال تذكّرنا بأن أي احتكاك ميداني يمكن أن يتحول إلى اختبار سياسي، فسلطات دمشق الجديدة لا تريد صداما مع بيروت، لكنها أيضا لا تفرّط في أي موطئ قدم يُقوي من نفوذها و يعطيها قوة.
أما لبنان، الغارق في أزماته الاقتصادية والسياسية، فيحتاج إلى إثبات أنه لا يزال دولة ذات سيادة، حتى لو كان ذلك عبر موقف رمزي عند تلة جرداء.

الترسيم المؤجل: بين الممكن والمستحيل

في الأفق، يلوح ملفّ ترسيم الحدود اللبنانية-السورية كأحد أكثر الملفات تعقيدا في المشرق العربي، فبينما تمكن لبنان وإسرائيل، بوساطة أميركية، من ترسيم حدودهما البحرية العام الماضي، يظل ترسيمه البري مع سوريا بعيد المنال.
السبب ليس فقط الجغرافيا، بل التاريخ والسياسة، ومع ذلك، فإن ضغوط المجتمع الدولي لإعادة ضبط الحدود في إطار مكافحة التهريب واللاجئين، تدفع الطرفين إلى فتح هذا الملف في السنوات المقبلة، ومن الممكن أن تصبح الخطوة الأولى على هذا الطريق هي الحوادث الميدانية الصغيرة مثل تلك التي شهدتها جرود عرسال، ففي الشرق الأوسط، تبدأ التحولات الكبرى عادةً من الحوادث الهامشية.

التهريب كحدود بديلة

ثمة حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها، فالحدود اللبنانية-السورية ليست فقط مسرحا للتوتر العسكري، بل شريان حياة لاقتصاد الظل.
شبكات التهريب، من الوقود والمواد الغذائية وحتى البشر، نسجت عبر العقود منظومة مصالح تربط بين عائلات وقرى تمتد على جانبي الجبل، وأي ترسيم فعلي سيعني كسر هذا النظام غير المعلن، ما سيخلق مقاومة محلية واقتصادية وربما مسلحة ضد أي محاولة لفرض حدود صلبة.

تجد الدولة اللبنانية نفسها بين معادلتين متناقضتين:

  • أن تحمي حدودها وتخسر “اقتصاد التهريب” الذي يغذي مناطقها الحدودية.
  • أن تغض الطرف فتخسر سيادتها القانونية.

وما لم يُحسم هذا التناقض، سيبقى الترسيم “مؤجلا” أقرب إلى حلم تقني في فضاء سياسي مضطرب.

المستقبل: الحدود كمرآة للنظام الإقليمي

حين نتأمل المشهد الأوسع، يتضح أن مصير الحدود اللبنانية-السورية يتوقف على النظام الإقليمي المقبل في المشرق، فاستقرار الحكم في دمشق نسبياً والتواصل العربي معه، و الأوربي و الأمريكي وبدء الحديث عن إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، كلها عوامل تدفع نحو مقاربة جديدة تقوم على “التطبيع الإداري” بين البلدين.
لكن في المقابل، فإن أي تصعيد إقليمي سيعيد إحياء فكرة “الحدود المفتوحة” كأداة ضغط وممر نفوذ، وما لم تتبلور رؤية إقليمية متماسكة، ستظل الحدود الشرقية للبنان منطقة معلّقة بين الحرب والسلم، والجغرافيا والسياسة، والخريطة والواقع.

الجغرافيا التي تبتلع التاريخ

حين كتب روبرت كابلان عن البلقان، قال إن “الحدود ليست خطوطا بل تواريخ متجاورة”، وينطبق هذا القول على لبنان وسوريا، فالحدود بينهما ليست فاصلا، بل طبقات من التاريخ والجغرافيا والدم، وفي كل مرة يحاول أحد الطرفين أن يرسم خطا، تأتي الجبال لتقول: “هنا لا خطوط”.

إن حادثة جرود عرسال مهما بدت صغيرة تفتح نافذة لقراءة مسار السياسة القادمة، والجغرافيا لا تنام، فهي ستظل تذكّرنا بأن الحدود في المشرق ليست سوى استراحة قصيرة في رحلة طويلة من السيولة والاختلاط، وأن كل محاولة لترسيمها إنما هي محاولة لتثبيت خرائط الآخرين عليها، في أرض لم يرقى الوعي الوطني والسياسة فيها إلى مستوى واحد.

حدود النار الباردة: لبنان وسوريا

حدود النار الباردة: لبنان وسوريا

تحليل تفاعلي للترسيم الحدودي المؤجل بين البلدين وتأثيراته الجيوسياسية

العوامل المؤثرة في الترسيم

التوازنات السياسية

التحديات الأمنية

375 كم
طول الحدود البرية
70%
مناطق وعرة التضاريس
12
معبر غير رسمي
3
معابر رسمية

العوامل المعيقة للترسيم

  • التداخل السكاني والقبلي
  • اقتصاد التهريب الموازي
  • الخلافات السياسية الداخلية
  • النفوذ الإقليمي والدولي
  • غياب الثقة بين النظامين

التسلسل الزمني للأحداث

1920

اتفاقية سايكس-بيكو وتأسيس دولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي

1943

استقلال لبنان وسوريا مع بقاء الحدود غير مرسمة بوضوح

1976-2005

الوجود العسكري السوري في لبنان وتأثيره على مفهوم الحدود

2011

اندلاع الحرب السورية وانتقال تأثيرها إلى المناطق الحدودية اللبنانية

2017

معارك الجيش اللبناني ضد التنظيمات الإرهابية في جرود عرسال

2023

حادثة منع الجيش اللبناني للوحدة السورية في جرود عرسال

الخاتمة: الترسيم المؤجل

تبقى حدود لبنان وسوريا شاهدة على تاريخ متشابك وجغرافيا معقدة، حيث تتداخل العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية لتجعل من الترسيم النهائي مهمة شبه مستحيلة في المدى المنظور. تظل هذه الحدود منطقة رمادية تعكس حالة عدم الاستقرار الإقليمي وتوازنات القوى المتغيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *