إعادة هيكلة القضاء في سوريا: قراءة تحليلية في دلالات حملة وزارة العدل

تكشف التحضيرات الجارية داخل وزارة العدل السورية لإقصاء عشرات القضاة ممن شاركوا في ملاحقة شخصيات معارضة، عن تحوّل نوعي في طريقة إدارة السلطة لمؤسساتها القضائية والإدارية.

المسألة لا تتعلق بمجرد مراجعة مهنية لأداء القضاة، بل بإعادة تعريف موقع القضاء داخل بنية الدولة ومهمته في ضبط المجال العام، فما يُطرح من استجوابات وتحقيقات لا يستهدف الوقائع القانونية بقدر ما يمسّ الولاءات السياسية، وهو ما يجعل هذه الخطوة علامة فارقة في علاقة السلطة بالقانون، وفي فهمها لوظيفة العدالة ذاتها.

القضاء كمرآة للسلطة لا كضابط لها

منذ عقود، ارتبط القضاء السوري بعلاقة متداخلة مع السلطة التنفيذية، اتسمت بتوازن دقيق بين التبعية الإدارية والسعي للحفاظ على هامش من الاستقلال المؤسسي، ورغم أنّ هذا الهامش لم يرتقِ إلى مستوى الاستقلال الكامل، لكنه أتاح للقضاة ممارسة مهامهم ضمن إطار قانوني محدّد، كما وفّر للدولة مظهرا مؤسساتيا يعبّر عن انتظام عمل الجهاز القضائي في ظل منظومة الحكم القائمة.

التحرك الحالي يقوّض هذا التوازن الدقيق، فحين يُستدعى قاض للتحقيق بسبب “موقفه السابق” أو “عدم انشقاقه” في زمن ما، يصبح القضاء أداة لتصفية الرموز أكثر مما هو جهاز لتحقيق العدالة، ويتغير موقع المؤسسة القضائية من “وسيط قانوني” بين الدولة والمجتمع إلى “مرآة للسلطة” تعكس صورتها الأيديولوجية كما تشاء.

التطهير الإداري كآلية لإعادة الضبط

تستهدف الحملة، وفق المعطيات المتداولة، أكثر من سبعين قاضيا في محافظة واحدة، فيما يشبه عملية تطهير مؤسساتية يجري تسويقها تحت عناوين مهنية، غير أن جوهرها سياسي واضح؛ إحلال قضاة جدد محلّ من يُشتبه في أنهم لا يتوافقون مع المزاج السائد داخل دوائر القرار.

هذه الآلية ليست جديدة على الأنظمة السلطوية، لكنها تتخذ في الحالة السورية بعدا مركّبا، فبدل أن يُنظر إلى القضاء بوصفه مؤسسة حيادية يُفترض تحصينها من التسييس، يتم التعامل معه كقطاع إداري عادي يمكن “إعادة هيكلته” عبر الفرز الأيديولوجي، ما يعني أن القضاء لم يعد يُقاس بالكفاءة، بل بدرجة “الثقة السياسية” التي يحظى بها القاضي من مرؤوسيه، لا من القانون الذي يقسم على احترامه.

إحلال الأيديولوجيا محلّ المهنية

تزامن هذه الإجراءات مع تعيين دفعات جديدة من خريجي المعهد العالي للقضاء والمحامين الشباب؛ يشي باتجاه نحو “تأطير” الجهاز القضائي ضمن رؤية فكرية محددة، والهدف الظاهر هو تجديد الدماء، أما الهدف الضمني فهو ضمان التجانس العقائدي، فالقاضي الجديد الذي يدخل المهنة محمّلا بخلفية فكرية واحدة سيكون أكثر قابلية للامتثال، وأقل استعدادا للمساءلة.

تتشكل طبقة قضائية مبرمجة على الطاعة المؤسسية لا على الاجتهاد القانوني، ضمن عملية إحلال صامتة تستبدل الثقافة القانونية بثقافة الولاء، وتحوّل الحياد المهني إلى موقف سياسي إلزامي، وعندما تصبح وظيفة القاضي أن “ينسجم” مع التوجه الرسمي لا أن يطبّق القانون، فإننا أمام نواة “قضاء عضوي” لا مستقل.

التحقيق في المواقف لا في الأحكام

اللافت في المعلومات المتداولة أنّ التحقيقات الجارية لا تتعلق بأحكام مخالفة للقانون أو بفساد مهني، بل تُركّز على “أسباب عدم الانشقاق” عن النظام السابق، أي على موقف سياسي شخصي في مرحلة تاريخية مضت، وهذا المنحى يُحوّل التفتيش القضائي إلى جهاز رقابة أيديولوجي أكثر منه هيئة مساءلة مهنية.

إنّ مساءلة القضاة على أساس مواقفهم السابقة تعني الاتهام بأن القانون لم يكن هو معيار الحكم في تلك المرحلة، بل الولاء السياسي، وما يجري اليوم على فرض أن هذا ما كان سائداً ليس تصحيحا لتلك المعادلة، بل استمرار لها بوسائل جديدة، إذ يتم استخدام القانون لإعادة ترتيب الولاءات، لا لترسيخ العدالة.

فصل السلطات كفكرة معلّقة

يتأسس مفهوم الدولة الحديثة على مبدأ فصل السلطات، لكن هذا المبدأ ظلّ في سوريا أقرب إلى النص الدستوري منه إلى الواقع العملي، ولكن بقي القضاء يمثل حقلا رمزيا يمكن عبره اختبار مدى جدية السلطة في احترام القواعد الدستورية، أما اليوم، فإن تحويل التفتيش القضائي إلى أداة إقصاء سياسي يجعل فكرة الفصل نفسها معلّقة، ويحوّل السلطة القضائية إلى ذراع تنفيذية ضمن منظومة القرار المركزي.

حين يُصبح القاضي عرضة للمساءلة لا بسبب خطئه القانوني، بل بسبب “تاريخه الإداري”، فإن معنى الحياد يسقط من أساسه، ويتكرّس نمط جديد من “الاحتكار السلطوي” الذي يدمج المؤسسات في جسد واحد لا يقبل النقد ولا الانفصال.

إعادة إنتاج الخوف الإداري

تُظهر التجربة السورية أنّ السيطرة السياسية لا تُمارَس فقط عبر الأدوات الأمنية المباشرة، بل أيضا من خلال إعادة تشكيل الجهاز البيروقراطي على قاعدة الخوف الممنهج، فالقاضي الذي يرى زميله يُستدعى أو يُحال إلى التفتيش بسبب قرار اتُّخذ قبل سنوات، سيدرك أنّ أمنه الوظيفي لا يتحدد بالكفاءة أو بالنزاهة، بل بالانصياع الكامل.

إنّ هذا النوع من “الانضباط البيروقراطي” يُنتج مؤسسات تفتقر إلى الجرأة والاجتهاد، ومع الوقت، يتراجع التفكير القانوني المستقل أمام حسابات السلامة الشخصية، فيتحول القاضي إلى موظف إداري أكثر منه رجل قانون، وهكذا تتكرّس العدالة كإجراء شكلي لا كقيمة.

من العدالة إلى الانضباط

تؤدي سياسات الإقصاء الحالية إلى قلب المفهوم الأساسي للعدالة، فبدل أن تكون وسيلة لتصحيح الأخطاء وحماية الحقوق، تُصبح أداة لتأديب العاملين داخل الجهاز القضائي، فالقانون يُستخدم لتثبيت النظام لا لتقويمه، وهذا التحوّل يضع القضاء في موقع دفاع دائم عن السلطة، بدل أن يكون ضمانة للمجتمع ضد تجاوزاتها.

وما يفاقم الأزمة أنّ عمليات الإقصاء ترافقها مراسيم بقبول استقالات جماعية تحت ضغط التهديد بالعزل أو تلفيق التهم، وهذه الديناميكية تعيد إلى الأذهان أنماط “الامتثال الطوعي القسري”، حيث يختار الأفراد الانسحاب طوعا لتجنّب العقاب، فتُفرغ المؤسسة من ذوي الخبرة لصالح من لا يمتلكون سوى الولاء.

دلالات سياسية أعمق

إنّ هذه الحملة لا يمكن قراءتها في معزل عن مسار السلطة الذي يقوم على مركزية القرار وتوحيد البنية الإدارية تحت مظلة واحدة، فإعادة تشكيل القضاء هي الوجه القانوني لهذا المسار، وعلى نحو مشابه، يمكن النظر إلى السياسات المتبعة في قطاعات أخرى كالإعلام أو التعليم بوصفها امتدادا لنهج إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وتوحيد مرجعياتها الإدارية.

المغزى الحقيقي لما يحدث ليس “تنظيف” للسلك القضائي، بل إعادة ترسيم حدود الطاعة داخل مؤسسات الدولة، فحين يُصبح القاضي مطالبا بإثبات ولائه السياسي، فإن الدولة تنقل مركز الشرعية من الدستور إلى السلطة التنفيذية ذاتها.

العدالة في مواجهة الانضباط

ما يجري داخل وزارة العدل لا يُمكن اختزاله في صراع إداري بين أجيال من القضاة، بل هو إعادة تعريف لوظيفة العدالة في النظام السوري، فالقضاء يتحوّل إلى جهاز طاعة مؤسسي، يخضع لامتحان الولاء لا لاختبار الكفاءة.

هذه السياسة التي تنجح في إحكام السيطرة على المؤسسة القضائية على المدى القريب، لكنها تُعمق في هشاشة الدولة، لأن العدالة، حين تُفرغ من مضمونها، لا تُعيد إنتاج الطاعة فحسب، بل تُنتج أيضا اللامشروعية من داخل النظام ذاته.

بهذه المعادلة، يصبح السؤال الحقيقي ليس كم قاضيا سيُقصى، بل أيّ معنى سيبقى للقانون في بلد يتبدّل فيه الولاء أسرع من تفسير النصوص التي يُفترض أنها تحكمه.

هندسة الولاء في القضاء السوري

هندسة الولاء في القضاء السوري

قراءة في دلالات حملة وزارة العدل لإقصاء القضاة

معلومات إضافية

اختر عنصرًا من الرسم البياني لعرض التفاصيل.

التحول النوعي

تحوّل في طريقة إدارة السلطة لمؤسساتها القضائية من مراجعة مهنية إلى إعادة تعريف لموقع القضاء داخل بنية الدولة.

القضاء كمرآة

يتحول القضاء من وسيط قانوني بين الدولة والمجتمع إلى مرآة للسلطة تعكس صورتها الأيديولوجية.

التطهير الإداري

عملية تطهير مؤسساتية تستهدف عشرات القضاة تحت عناوين مهنية بينما جوهرها سياسي واضح.

إحلال الأيديولوجيا

اتجاه نحو “تأطير” الجهاز القضائي ضمن رؤية فكرية محددة وضمان التجانس العقائدي.

التحقيق في المواقف

التحقيقات لا تتعلق بأحكام مخالفة للقانون بل تُركّز على “أسباب عدم الانشقاق” عن النظام السابق.

فصل السلطات المعلق

تحويل التفتيش القضائي إلى أداة إقصاء سياسي يجعل فكرة فصل السلطات معلقة.

الخلاصة

ما يجري داخل وزارة العدل لا يُمكن اختزاله في صراع إداري بين أجيال من القضاة، بل هو إعادة تعريف لوظيفة العدالة في النظام السوري، حيث يتحوّل القضاء إلى جهاز طاعة مؤسسي يخضع لامتحان الولاء لا لاختبار الكفاءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *