في السياسة، كما في الحياة، لا يولد الغفران من الكلمات، بل من التوازن بين الذاكرة والمصلحة، وفي مقابلة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع مع قناة فوكس نيوز بعد لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، شاهدنا محاولة نادرة لرجل يحاول إعادة تعريف نفسه أمام العالم؛ من مقاتل ملاحَق بجرائم لا تحصى إلى رئيس مرحّب به في البيت الأبيض.
لكن الأهم من القصة هو ما تكشفه تلك المقابلة عن العالم الذي سمح بعودته.
رجل يتحدث بلغة واشنطن
حين جلس أحمد الشرع أمام كاميرات فوكس نيوز، لم يكن يتحدث كسوري يخاطب بلاده، بل كزعيمٍ يعرف جمهوره الحقيقي: صُنّاع القرار في واشنطن، فكل عبارة خرجت منه كانت تُصاغ بلغة مألوفة للنخبة الأميركية؛ “رفع العقوبات” و “الاستثمار” و “التعاون ضد الإرهاب”.
إنه خطاب مصمَّم لإقناع الولايات المتحدة بأن سوريا يمكن أن تتحول من عبءٍ جيوسياسي إلى فرصة.
لكن في تلك اللغة الجديدة يكمن خطر قديم في أن تتحول الواقعية السياسية إلى بديل عن الحقيقة، فالرجل الذي وُصف يوما بأنه “قائد فصيل متشدد” لم يتحدث عن ماضيه إلا بعبارة واحدة “ذلك أمر من الماضي”،
فبهذه الجملة القصيرة طوى صفحة كاملة من العنف والدماء، لا عبر الاعتراف بل عبر التجاهل.
في التاريخ الحديث، نادرا ما ينجو القادة من ظلّ ماضيهم، لكن في عالم متعب من الحروب، يبدو أن “النسيان الاستراتيجي” أصبح سياسة دولية.
أميركا تبحث عن شريك، لا عن قديس
أحمد الشرع لم يُبعث من رماد الحرب السورية وحده، فهو إنه نتاج لحظة أميركية جديدة، حيث لم تعد واشنطن تريد إسقاط الأنظمة بل شراء الاستقرار.
إدارة ترامب التي لطالما فضّلت الصفقات على المبادئ وجدت في الشرع نموذجا يناسب روحها؛ رجل براغماتي، يتحدث لغة الأمن والاقتصاد، لا لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في هذا المعنى، تمثل المقابلة أكثر من مجرد حوار تلفزيوني، إنها مشهد رمزي لتحوّل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط من أخلاق التدخل إلى براغماتية النفع، فبدلا من السؤال “من هو هذا الرجل؟” أصبح السؤال “ما الذي يمكن أن يفعله لنا؟”.
وهذه ليست المرة الأولى التي تعيد فيها واشنطن تأهيل من كانوا أعداءها، فالتاريخ الأميركي مليء بالأسماء التي انتقلت من قوائم الإرهاب إلى قوائم الحلفاء حين تغيّرت الحاجة.
التطبيع مع إسرائيل… والرقص على الحافة
حين سُئل الشرع عن انضمام سوريا إلى اتفاقات أبراهام، أجاب بهدوء “الوضع في سوريا مختلف، لأننا نتشارك الحدود مع إسرائيل والجولان محتلّ منذ عام 1967″، فهو لا يرفض التطبيع، ولا يقبله، بل يترك الباب مفتوحًا للمساومة، وهي لغة تذكّرنا بتعبير كيسنجر الشهير “الغموض البنّاء”، لكنها أيضًا لغة تكشف هشاشة موقع الشرع.
فهو يحاول أن يُظهر نفسه للغرب كقائد واقعي، من دون أن يخسر شرعيته المحلية أمام شعب لا يزال جرح الاحتلال مفتوحا في ذاكرته، فالموقف من إسرائيل كان دائما اختبار الهوية السياسية في الشرق الأوسط،
والشرع يبدو أنه اختار الهرب من الاختبار لا مواجهته.
العدالة الانتقالية بين الرمزية والفراغ
من أكثر العبارات التي أثارت الانتباه قوله إن “العدالة ستشمل بشار الأسد نفسه”، وتصريح كهذا يُسمع للمرة الأولى من رئيسٍ سوري، لكن بعد الدهشة، تأتي الأسئلة:
ومن يملك الحق بمحاسبة مرحلة هو شريك في خرابها؟ أين هي المحكمة؟ من يملك الصلاحية؟ وهل تملك حكومته القدرة على مواجهة موسكو التي تستقبل الأسد؟
الجواب الواقعي هو لا.
لذلك فإن هذه الجملة لا تعبّر عن نية حقيقية بقدر ما تعبّر عن محاولة لتجميل الصورة أمام الغرب، فهي “عدالة لفظية” ووعد بلا آلية، وتعهّد بلا أدوات، فيعيد الشرع إنتاج الخطأ ذاته الذي ارتكبته نخب عربية كثيرة من قبله عبر استخدام مفردات الحداثة لتزيين واقع لم يتغير.
الإنسان كأداةٍ سياسية
في نهاية المقابلة، تحدّث الشرع عن لقائه بأمّ أحد الأميركيين المفقودين في سوريا، وقال إنه تعاطف معها لأن والدته عاشت التجربة نفسها حين ظنّت أنه مات.
كانت لحظة مؤثرة، صيغت بعناية، لكنها كانت أيضا لحظة تسويق إنساني للزعيم الجديد، ففي عالم الإعلام الحديث، لم تعد السياسة تُمارس فقط في أروقة القصور بل على الشاشات، والشرع يعرف أن المشاعر هي أقصر طريق إلى القبول.
إنها لعبة “القوة الناعمة” في شكلها الفردي عبر كسب التعاطف لا عبر السياسات، بل عبر القصص الشخصية، لكن المأساة السورية أعمق من أن يختصرها مشهد تمثيلي لدمعة في مقابلة تلفزيونية، فالإنسانية الحقيقية تبدأ حين تُبنى المؤسسات التي تحمي الناس من أن يصبحوا قصصا تروى.
قبعة ترامب ومعنى الرموز
قالت المذيعة في نهاية المقابلة إن الرئيس ترامب أهدى الشرع قبعة من شعاره الشهير “اجعلوا أميركا عظيمة مجددا”، ويبدو الأمر تفصيلا بروتوكوليا، لكنه يحمل دلالة رمزية واضحة لأنه إعلان تبعية رمزية أكثر منه شراكة متكافئة.
في السياسة الهدايا ليست بريئة، وأن يحمل زعيم دولةٍ مدمّرة شعار دولة عظمى كهدية، فذلك يعني أنه لا يزال يبحث عن شرعيته خارج حدوده، فهو يذكرنا بالمفارقة التاريخية القديمة بأن الشرق الأوسط لا يزال يُعرّف ذاته من خلال الآخر.
ما الذي يقوله هذا الخطاب عن العالم؟
الشرع حالة سورية مؤسفة لكنه في جوهره نتاج لعصر عالمي يتغيّر، وتتراجع فيه الأيديولوجيات الكبرى، وتُستبدل بالقومية والبراغماتية، وتُقدم فيه الواقعية كفضيلةٍ أخلاقية، وفي هذا العالم، يستطيع زعيم قاتل كان منبوذا أن يعود إلى المسرح الدولي إذا ما وعد بـ”الاستقرار والاستثمار”.
لكن المشكلة أن الاستقرار بلا عدالة لا يدوم، فهو يشبه بناء بيت على رمال متحركة، فيبدو متينا للحظة، لكنه ينهار عند أول عاصفة، والشرع، في النهاية، ليس ظاهرة سورية بقدر ما هو مرآةٌ لنظام دولي ما بعد الأخلاق؛ عالم يتقبل ماضيك طالما أنك اليوم على الجانب الصحيح من مصالحه.
بين الماضي والمستقبل
من السهل أن نرى في خطاب أحمد الشرع بداية جديدة لسوريا، لكن الأصعب أن نرى فيه رؤية جديدة للعالم،
فما عرضه الرجل في مقابلة فوكس نيوز لم يكن مشروعا وطنيا، بل صفقةً جيوسياسية، وما بدا أنه توبة سياسية هو في الواقع إعادة تموضع داخل نظام دولي متعب، مستعد لأن يغفر لمن يقدّم له ما يريد؛ أمن الحدود، وانفتاح الأسواق، ونسيان الماضي.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الشعوب لا تُشفى بالنسيان، وأن العدالة المؤجلة تتحول إلى بركان نائم، وربما استطاع الشرع أن يقنع واشنطن بأنه رجل السلام المقبل، لكنه لم يقنع بعد السوريين بأنه رجل الدولة الذي يستحق مستقبلهم.
العودة من العزلة: خطاب أحمد الشرع
بين توبة القوة وواقعية الذاكرة
التحول في الخطاب السياسي
تحول خطاب الشرع من لغة المقاومة إلى لغة المصالح المشتركة مع واشنطن، مع التركيز على:
الاستراتيجيات الخطابية
استخدم الشرع عدة استراتيجيات خطابية لإعادة تعريف صورته:
الاستقرار مقابل العدالة
يقدم خطاب الشرع معادلة جديدة حيث يصبح الاستقرار هو الهدف الأسمى على حساب العدالة والمحاسبة.
تطور الموقف الأمريكي
مرحلة التدخل الأخلاقي
التركيز على إسقاط الأنظمة والدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان كأساس للسياسة الخارجية الأمريكية.
التحول نحو البراغماتية
الانتقال من أخلاق التدخل إلى براغماتية النفع والاستقرار، مع أولوية المصالح على المبادئ.
إعادة تأهيل الخصوم
الانتقال من قوائم الإرهاب إلى قوائم الحلفاء مع تغير الحاجة والظروف الجيوسياسية.
النسيان الاستراتيجي
تقبل الماضي والتنازل عن المحاسبة مقابل ضمان المصالح الحالية والاستقرار الإقليمي.
الخلاصة: مرآة لنظام دولي ما بعد الأخلاق
خطاب أحمد الشرع لا يمثل تحولاً سورياً فقط، بل هو نتاج لعالم يتغير حيث تتراجع الأيديولوجيات الكبرى وتُستبدل بالقومية والبراغماتية.
في هذا العالم، يستطيع زعيم كان منبوذاً أن يعود إلى المسرح الدولي إذا ما وعد بـ”الاستقرار والاستثمار”، لكن التاريخ يعلّمنا أن الشعوب لا تُشفى بالنسيان، وأن العدالة المؤجلة تتحول إلى بركان نائم.

