التحول الأميركي في دمشق: اختبار لقدرة سوريا على استعادة التوازن الإقليمي

في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، خرج المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم براك، ليقول بوضوح “هذا الأسبوع يمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط”، مضيفا أن “دمشق ستساعدنا في مواجهة وتفكيك بقايا تنظيم الدولة والحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله وغيرها”، و “يمثل تحولا ملحوظا لسوريا من العزلة إلى الشراكة”.
هذه التصريحات لا تحمل وعودا سياسية فحسب، بل تشير إلى إعادة تعريف شاملة لوظيفة سوريا في النظام الإقليمي، وإلى عودة واشنطن إلى الميدان السوري بأدوات مختلفة تماماً عن تلك التي استخدمتها خلال العقد الماضي.

واشنطن تُعيد تعريف دور دمشق

ما تقوله الولايات المتحدة اليوم ليس تكرارا لمعادلات سابقة، بل إعلان عن فلسفة براغماتية جديدة تتعامل مع الواقع السوري كعنصر توازن ضروري، لا كملف عالق في حسابات العقوبات والعزلة.
عندما يصرّح براك بأنّ دمشق ستكون شريكا في مواجهة الحرس الثوري الإيراني وتنظيم الدولة وحزب الله، فإنّه يعلن عمليا عن مرحلة تحوّل وظيفي في المقاربة الأميركية، فمن سياسة “الاحتواء عبر العقوبات” إلى “الاحتواء عبر الشراكة الأمنية”.

واشنطن لم تعد تسعى إلى البحث في هوية السلطة الجديدة في دمشق، بل إلى إعادة توظيفها في شبكة النفوذ الأميركية، بحيث تصبح شريكا في إدارة التوازنات الإقليمية لا خصما ضمن محور معاد، فهي تعود إلى سوريا عبر البوابة السياسية، بعد عقود من أدوات القوة الصلبة في إخضاعها أو عزلها.

من العزلة إلى الشراكة – تحوّل في البنية الاستراتيجية

حين قال براك إنّ “هذا الأسبوع يمثل تحولا ملحوظا لسوريا من العزلة إلى الشراكة”، لم يكن يتحدث عن مجرّد تقارب دبلوماسي، بل عن إعادة إدماج لسوريا في هندسة الأمن الإقليمي.
فالولايات المتحدة تدرك أنّ استمرار عزلة دمشق جعل من البلاد مساحة مفتوحة للنفوذ الروسي والإيراني، وأنّ أي توازن مستقبلي في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه دون حضور الدولة السورية، سواء في ملف الإرهاب أو اللاجئين أو الطاقة الإقليمية.

إنّ التحول الذي يتحدث عنه براك ليس حدثا سياسيا فقط، بل مناورة جيوسياسية واسعة تهدف إلى إعادة دمج سوريا في منظومة التوازن الإقليمي، وإعادة بناء “نظام مصالح متقاطع” يربط بين واشنطن وأنقرة وتل أبيب ودمشق والعواصم العربية الكبرى.

بعد أعوام من الانقسام والتباعد، تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى هندسة مشهد إقليمي مختلف، تكون فيه سوريا عنصرا فاعلاً في تحقيق الاهداف الاميركية والاسرائيلية، و الذي يؤدي وفق رؤيتها إلى استقرار الإقليم لا محورا للصراع، وإلى تحويل التعاون الأمني والسياسي إلى قاعدة لبناء شراكات اقتصادية أوسع تعيد وصل المشرق العربي ببعضه من جديد.

الإطار الأميركي – التركي – السوري – الإسرائيلي: مثلث التوازن الجديد

العبارة الأكثر عمقا في حديث براك هي قوله:”رسمنا معالم المرحلة التالية من الإطار الأميركي – التركي – السوري”.
لكن خلف هذا التعبير الدبلوماسي المقتضب، يمكن قراءة ملامح هندسة سياسية وأمنية رباعية تتجاوز حدود الشمال السوري، لتشمل في عمقها طرفا رابعا غير معلن رسميا.. تل أبيب.

فأنقرة، التي أنهكتها الحرب الطويلة على حدودها الجنوبية، تبحث اليوم عن تسوية تحفظ مصالحها الأمنية وتعيد ضبط علاقتها بالأكراد، بينما ترى واشنطن أن التنسيق مع  السلطة في دمشق وأنقرة وتل أبيب معاً يشكّل وسيلة فعّالة لتقليص وجودها العسكري المباشر شرق الفرات من دون أن تفقد قدرتها على التأثير في التوازنات الإقليمية.
أمّا تل أبيب، فتتابع هذه التحولات بعين استراتيجية، إدراكا منها أن أي إعادة ترتيب للحدود السياسية والأمنية في سوريا ستنعكس مباشرة على معادلات الردع في الجولان، وعلى طبيعة التوازن العسكري في المشرق بأسره.

في المقابل، تدرك دمشق أن مشاركتها في هذا الإطار ولو بحدود غير معلنة، تمنحها شرعية إقليمية متجددة، وتعيد ترسيخ موقعها كضامن للاستقرار الحدودي، لا كعنصر صدام.
تتقاطع مصالح الأطراف الأربعة ضمن مشروع غير معلن رسميا بعد، لكنه يميل نحو تحويل سوريا من ساحة مواجهة إلى محور توازن، ومن خط تماس إلى نقطة التقاء مصالح:

  • واشنطن تسعى لتقليص حضورها المباشر.
  • أنقرة لحماية أمنها القومي.
  • تل أبيب لضمان استقرار حدودها الشمالية.
  • السلطة في دمشق تأمين استمرار وجودها عبر اإقامة علاقات سياسية واقتصادية ضمن منظومة الشرق الأوسط الجديد.

النتيجة المحتملة هي نشوء مثلث توازن ممتد الأضلاع، لا يقتصر على واشنطن وأنقرة و السلطة في دمشق، بل يضم تل أبيب كفاعل خفيّ ومؤثر، يعيد صياغة قواعد الاشتباك في المشرق، ويحوّل الجغرافيا السورية من مجال نفوذ متنازع عليه إلى مفصلٍ جيوسياسي يُعاد عبره رسم ملامح الإقليم بأسره وفق المصالح الأميركية-الاسرائيلية.

الإلغاء الكامل لقانون قيصر – الإشارة الرمزية الكبرى

دعوة براك إلى “الإلغاء الكامل لقانون قيصر” تمثل الذروة الرمزية لهذا التحول، فهذا القانون كان طوال السنوات الماضية أداة العزلة الأميركية ضد دمشق، وأحد أعمدة سياسة “العقاب الممنهج”.
اليوم الحديث عن إلغائه لا يُفهم فقط كتغيير قانوني، بل كاعتراف سياسي بانتهاء حقبة الحصار وبدء مرحلة التفاعل المشروط.

براك لم يطالب بالتخفيف أو التعديل، بل بالإلغاء الكامل، ما يعني أن واشنطن تهيئ بيئتها التشريعية لعودة تدريجية إلى السوق السورية، وربما إلى الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار بالتنسيق مع الحلفاء العرب، لكن في المقابل، سيُربط هذا الإلغاء بسلسلة من الالتزامات الأمنية والسياسية التي تُنتج ما يمكن تسميته بـ”المقايضة الكبرى” تكون بانفتاح اقتصادي مقابل تحييد أمني لإيران والتنظيمات المتحالفة معها.

براغماتية أمريكية أم إعادة تموضع تكتيكي؟

يبدو منطق براك أقرب إلى الواقعية الأميركية المتأخرة، حيث الاعتراف بأن ما لم يُهزم عسكريا يمكن استيعابه سياسيا، فبعد عقدين من التجارب المريرة في العراق وأفغانستان، أدركت واشنطن أن التفكك لا يخلق استقرارا، وأنّ القوة الناعمة عبر التحالفات أكثر استدامة من الاحتلال المباشر.
لا تتحدث الولايات المتحدة اليوم بلغة “التغيير”، بل “التحويل” للدولة السورية من خصم إلى شريك، ومن عنصر مقاوم إلى عنصر موازن عبر السلطة الجديدة.

لكن هذه البراغماتية لا تخلو من مخاطر؛ فواشنطن لم تتخلّ بعد عن أهدافها الأساسية المتمثلة في تحجيم النفوذ الإيراني وضبط السلوك الروسي، وهي ترى في العلاقات مع دمشق مدخلا لتحقيق ذلك، لا غاية بحدّ ذاتها.

تحديات التحول على الأرض

التصريحات الأميركية لا تعني أن التحوّل بات ناجزا، فسوريا تواجه شبكة معقدة من التحديات البنيوية، من اقتصاد متعب وبنية تحتية مدمّرة، وجغرافيا سياسية مزدوجة النفوذ بين قوى متعددة، ومجتمع أنهكته الحرب.
إن تحويل سلطة دمشق إلى “شريك استراتيجي” يتطلب أكثر من الإرادة الأميركية؛ يحتاج إلى قدرة هذه السلطة على توحيد القرار الوطني، وضبط الحضور الأجنبي، وتفعيل الدولة كمؤسسة سيادية موحدة، وهذا الامر الى الآن ليس ضمن مخططاتها.

كما أن الانفتاح الأميركي، رغم أنه فرصة؛ يولّد حساسية داخلية وإقليمية إذا فُهم على أنه تخل عن ثوابت الاستقلال أو انخراط في تحالفات مشروطة، وتبدو المرحلة المقبلة اختباراً مزدوجاً: اختبار للثقة بين واشنطن وسلطة دمشق، واختبار لقدرة الأخيرة على التكيّف.

الأبعاد الإقليمية والدولية للتحول

التحول في الموقف الأميركي تجاه دمشق لا يمكن عزله عن السياق الأوسع لإعادة ترتيب الشرق الأوسط،
فالإقليم يشهد منذ عامين تحوّلات متسارعة من خلال انفتاح سعودي – إيراني برعاية صينية، تقارب تركي – عربي، وإعادة توزيع لمناطق النفوذ الروسية بسبب الحرب الأوكرانية.
في هذا المشهد المتغير، تعود واشنطن لتستعيد المبادرة من خلال البوابة السورية، محاولة كبح التمدد الإيراني والروسي في آنٍ واحد، وإذا ما نجحت المقاربة، فربما تمهّد التحولات الجارية لعودة سوريا إلى موقع الدولة التوازنية، إذا نجحت السلطة الجديدة في جعل المرجعية الدينية إطارا أخلاقيا للقيم لا أيديولوجيا للحكم، لأن التوازن لا يقوم على العقيدة بل على المصلحة، ولا تُبنى الشراكات باليقين المطلق بل بالمرونة السياسية التي تحفظ للدولة استقلالها وتُعيد لها دورها كجسر بين المتنافرين لا كجبهة لأحدهم.

وإذا فشلت، فإنها قد تفتح الباب أمام جولة جديدة من الاصطفافات المتقابلة، وتكرّس حالة “اللا حل” التي أنهكت المنطقة منذ عقدٍ ونيف.

من دمشق إلى الإقليم – ما الذي يتغيّر فعلاً؟

إنّ أهمية تصريحات توم براك لا تكمن في مضمونها فحسب، بل في التوقيت الذي أُطلقت فيه، فهي تأتي بعد مرحلة من التهدئة الإقليمية، وبعد انحسار أولويات الحرب في الخطاب الأميركي العالمي، فهي إعلان عن رغبة واشنطن في إعادة الدخول إلى قلب الشرق الأوسط عبر تسوية لا عبر صراع، وعن إدراك متأخر بأنّ أي نظام إقليمي لا يمكن أن يستقر دون دمشق.

لكن التحول الحقيقي لن يُقاس بالتصريحات، بل بما ستفعله الولايات المتحدة على الأرض، فهل ستترجم أقوالها بإلغاء فعلي للعقوبات، وبمشاريع دعم وإعمار، وبسياسة تحترم السيادة السورية؟ أم أن الأمر مجرد إعادة تزيين لسياسات قديمة بلغة أكثر ليونة؟

التحول كاختبار مزدوج

إن ما يسميه براك “نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط” هو في الحقيقة اختبار مزدوج؛ لواشنطن في صدق نيتها تجاه بناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل، واختبار للسلطة في سوريا وقدرتها على الاستفادة من اللحظة وتثبيت وجودها واستمرارها.

تبدو دمشق اليوم وكأنها أمام فرصة نادرة لإعادة تعريف موقعها إقليميا ودوليا، لكن الطريق إلى ذلك محفوف بتعقيدات تتجاوز النوايا السياسية، فالمسألة لم تعد تتعلق بالخطاب أو بالتصريحات، بل بقدرة السلطة على تحويل لحظة الانفتاح إلى مشروع دولة مستقرّة وقادرة على الفعل.

تبقى هذه القدرة موضع شكّ مشروع، في ظل هشاشة البنية الإدارية، وضبابية الرؤية الاقتصادية، وتردد التحالفات الجديدة بين الواقعية والتوجس.
الشرق الأوسط، كما يذكّرنا تاريخه القريب، لا يكافئ النوايا، بل النتائج؛ ولا يُعيد التوازن لمن يطلبه، بل لمن يفرضه بتماسكه واستقلال قراره، وربما لا يكون هذا الأسبوع الذي تحدث عنه براك لحظة ولادة لحقبة جديدة، بقدر ما هو بداية اختبارٍ عسير لقدرة  السلطة في دمشق على أن تثبت أنها ليست موضوعا في خرائط الآخرين، بل فاعلا يملك إرادته في رسمها.

التحول الأميركي في دمشق

التحول الأميركي في دمشق: بين استعادة التوازن وإعادة تعريف الشرق الأوسط

مقدمة: لحظة فارقة

في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، خرج المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم براك، ليقول بوضوح “هذا الأسبوع يمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط”، مضيفا أن “دمشق ستساعدنا في مواجهة وتفكيك بقايا تنظيم الدولة والحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله وغيرها”، و “يمثل تحولا ملحوظا لسوريا من العزلة إلى الشراكة”.

هذه التصريحات لا تحمل وعودا سياسية فحسب، بل تشير إلى إعادة تعريف شاملة لوظيفة سوريا في النظام الإقليمي، وإلى عودة واشنطن إلى الميدان السوري بأدوات مختلفة تماماً عن تلك التي استخدمتها خلال العقد الماضي.

محطات التحول الأميركي

ما قبل التحول
سياسة “الاحتواء عبر العقوبات” – العزلة الدولية لسوريا – قانون قيصر كأداة للعقاب الممنهج
المرحلة الانتقالية
تحول في المقاربة الأميركية من سياسة القوة الصلبة إلى القوة الناعمة – الاعتراف بفشل سياسة الاحتواء عبر العقوبات
التحول الحالي
الانتقال إلى “الاحتواء عبر الشراكة الأمنية” – الدعوة إلى الإلغاء الكامل لقانون قيصر – إعادة إدماج سوريا في هندسة الأمن الإقليمي

الأطراف الفاعلة في التحول

الولايات المتحدة
تقليص الوجود العسكري – مواجهة النفوذ الإيراني والروسي
سوريا
الانتقال من العزلة إلى الشراكة – استعادة العمق السياسي والاقتصادي
تركيا
حماية الأمن القومي – إعادة ضبط العلاقة مع الأكراد
إسرائيل
ضمان استقرار الحدود الشمالية – مراقبة التوازن العسكري في المشرق

النقاط الرئيسية في التحول

واشنطن تُعيد تعريف دور دمشق

الانتقال من سياسة “الاحتواء عبر العقوبات” إلى “الاحتواء عبر الشراكة الأمنية”. إعادة توظيف سوريا في شبكة النفوذ الأميركي كشريك في إدارة التوازنات الإقليمية.

من العزلة إلى الشراكة

إعادة إدماج سوريا في هندسة الأمن الإقليمي. تحويل سوريا من عنصر مقاوم إلى عنصر موازن في المعادلة الإقليمية.

الإطار الأميركي – التركي – السوري – الإسرائيلي

نشوء مثلث توازن ممتد الأضلاع يضم واشنطن وأنقرة ودمشق وتل أبيب كفاعل خفي ومؤثر يعيد صياغة قواعد الاشتباك في المشرق.

الإلغاء الكامل لقانون قيصر

الذروة الرمزية للتحول من سياسة العقاب الممنهج إلى مرحلة التفاعل المشروط. مقايضة الانفتاح الاقتصادي مقابل تحييد أمني لإيران والتنظيمات المتحالفة معها.

التحديات والفرص

الخلاصة: اختبار مزدوج

ما يسميه براك “نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط” هو في الحقيقة اختبار مزدوج؛ لواشنطن في صدق نيتها تجاه بناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل، واختبار لسوريا في قدرتها على الاستفادة من اللحظة دون التفريط باستقلالها.

الشرق الأوسط، كما يذكّرنا تاريخه القريب، لا يكافئ النوايا، بل النتائج؛ ولا يُعيد التوازن لمن يطلبه، بل لمن يفرضه بتماسكه واستقلال قراره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *