سوريا الجديدة بين الخطاب البراغماتي والمأزق البنيوي: قراءة في خطاب أسعد الشيباني

من على منبر “تشاتام هاوس” البريطاني، أحد أعرق مراكز الأبحاث في أوروبا، حاول وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن يرسم ملامح “سوريا الجديدة”، وجاءت كلماته حذرة ومثقلة بتاريخ من الدم والحطام.

بدا الشيباني كمن يحاول أن يقدّم للعالم رواية جديدة عن بلده، رواية تتجاوز الاستقطاب الأخلاقي والسياسي دون أن يقطع تماما مع ذاكرة الخراب، لكن خلف اللغة المصقولة التي تحدث بها الوزير، يبرز سؤال جوهري، فهل نحن أمام خطاب سياسي جديد يعكس تحولا حقيقيا في بنية الحكم السوري الحالي، أم أمام عملية تجميل بأدوات أكثر عصرية؟

ولادة خطاب براغماتي من رحم الإنهاك

في استعراضه للعلاقات السورية مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، شدد الشيباني على أن السياسة الخارجية لدمشق الجديدة تقوم على “الاحترام المتبادل” و”البراغماتية الواقعية”، وهو ما يشكّل خروجا ظاهريا عن خطاب النظام السابق الذي تمحور حول الصمود والممانعة، بل ويقترب أكثر من اللغة السياسية التي تتحدث بها الحكومات البراغماتية في الشرق الأوسط بعد موجات التحول الكبرى.

لكن البراغماتية التي تحدّث عنها الشيباني تبدو، في التحليل السياسي، ضرورة أكثر منها خيارا، فحكومة جاءت بعد حروب طويلة وعقوبات خانقة، لا تملك ترف الأيديولوجيا، فحين يضيق هامش القوة، تصبح الواقعية السياسية لغة البقاء.
بدا الشيباني في لندن كمن يسعى لطمأنة الغرب إلى أن دمشق لم تعد تشكل تهديدا، بل شريكا محتملا في الاستقرار الإقليمي، حتى وإن كان هذا الخطاب موجها بقدر كبير إلى المستثمرين لا إلى الدبلوماسيين.

العدالة الانتقالية بين الوعود الأخلاقية والمصالح الواقعية

حين سُئل الوزير عن العدالة الانتقالية، تحدث عن لجان تحقيق، وزيارات مفتوحة للمفتشين، والتزامٍ بمحاسبة المتورطين في الجرائم، غير أن هذا الجزء من خطابه بدا أقرب إلى صيغة تهدئة منه إلى خطة وطنية مكتملة.

فالمعيار الحقيقي في العدالة الانتقالية، كما تشير تجارب جنوب أفريقيا وتشيلي ورواندا، ليس الاعتراف اللفظي بالجرائم، بل القدرة على الفصل بين من مارس الانتهاك ومن يمثل الدولة اليوم.

يواجه الخطاب السوري الجديد في هذه النقطة تحديا أكثر تعقيدا؛ فالقضية لم تعد مجرد مساءلة عن ماضي الانتهاكات التي قامت بها المجموعات المسلحة نفسها التي استلمت السلطة، بل عن استمرار أنماطها في الحاضر، إذ كيف يمكن إقناع الضحايا بجدّية العدالة في ظل سلطة ما تزال تمارس، بأشكال مختلفة، بعض الآليات ذاتها التي عمّقت انعدام الثقة؟

أقرّ الوزير بأن حكومته “لم تتبنَّ سياسة اجتثاث” وأنها “حافظت على مؤسسات الدولة وقوانينها”، وهي خطوة يمكن تبريرها بمنطق الاستقرار وتجنّب الفراغ الإداري، لكنها تثير في الوقت نفسه تساؤلات حول طبيعة هذا “الاستقرار” ومضمونه، فالمشكلة لم تعد في إرث المؤسسات السابقة التي حافظت على البلد رغم كل شي، بل في الكيفية التي تواصل بها السلطة الجديدة إعادة إنتاج أنماط العمل الأمني، تحت شعارات مختلفة، فالإبقاء على المؤسسات دون إعادة تعريف لدورها وآليات مساءلتها لا يعني ترميم الدولة، بل إدامة منظومة الفساد القديمة فيها فقط بثوب إصلاحي جديد.

التعددية الموعودة وهاجس الطائفية

أكثر المقاطع اللافتة في خطاب الشيباني كانت تلك التي تحدث فيها عن “سوريا الجامعة”، وعن دولة “مدنية تعددية قائمة على الانتخابات”، واستخدم مفرداتٍ أقرب إلى القاموس الديمقراطي الغربي، مع استحضار صورة سوريا كبلدٍ متنوع الثقافات والأديان.

لكن خلف هذا التفاؤل اللغوي، تُطلّ المعضلة الطائفية كجذرٍ صلب في البنية السياسية الحالية، فالوزير تحدث مطولا عن تجاوز الانقسامات، إلا أن حديثه عن الهجمات ضد العلويين والدروز جاء بلغة الدفاع الأمني لا بلغة المصالحة الوطنية.

لم يقدم رؤية مؤسساتية لكيفية بناء الثقة بين المكونات، بل ركز على “الإغاثة” و”المساعدات” و”اللجان”، وهي أدوات إدارة أزمة، لا أدوات بناء أمة.

يبدو أن الحكومة الجديدة تريد أن تُظهر أنها ليست نسخة دينية أو سنّية في إدارة البلاد، لكنها في المقابل لم تقدم نموذجا فكريا واضحا لماهية الدولة المدنية المنشودة، فحين سُئل الشيباني عن بقاء الشريعة أساسا للدستور، اكتفى بالقول إن “سوريا دولة مدنية تؤمن بالتعددية”، وهي إجابة رمادية، مقصودة ربما، لكنها تكشف حدود الرغبة في الحسم الفكري.

السياسة الخارجية الجديدة — بين الواقعية والرمزية

في سياق حديثه عن العلاقات مع “إسرائيل” وتركيا وإيران وروسيا، حاول الوزير أن يرسم معادلة دقيقة بين الانفتاح وعدم التفريط، سوريا، كما قال، لا تريد أن تكون “ساحة لوكالات الآخرين”، لكنها أيضا لا تسعى إلى العداء مع أحد.
هي مقاربة تشبه إلى حد كبير ما يمكن تسميته بـ”الحياد النشط”، حيث تحاول الدولة المنهكة أن تتحرك في فضاء إقليمي شديد الاستقطاب دون أن تُستنزف مجددا في تحالفات صفرية.

لكن من منظور السياسة الواقعية، لا يكفي إعلان النوايا، فموقع سوريا الجغرافي يجعلها في قلب تناقضات الشرق الأوسط؛ بين إسرائيل التي لا تزال تقصف أهدافا داخل أراضيها، وروسيا التي تأخذ قاعدة عسكرية كبيرة على الساحل، وتركيا التي ترى في شمال سوريا امتدادا لأمنها القومي.

إدارة هذه العلاقات تحتاج إلى مؤسسات خارجية فاعلة، ودبلوماسية احترافية قادرة على تحويل الخطاب إلى تفاهمات، أما الاكتفاء بالتأكيد اللفظي على “البراغماتية”، فسيظل نوعا من “الخطاب الوظيفي” الذي يهدف إلى كسب الوقت والشرعية الدولية أكثر من كونه سياسة خارجية متماسكة.

إعادة الإعمار… الاقتصاد كاختبار للشرعية

منذ لحظة سقوط النظام السابق، يدرك القادة الجدد أن الاقتصاد هو الميدان الذي سيحكم عليهم فيه التاريخ، فالوزير الشيباني تحدث عن “فرص استثمارية هائلة”، وعن “تعديل قانون الاستثمار”، وعن عودة أكثر من مليون سوري إلى الداخل.

لكن ما غاب عن خطابه هو الرؤية البنيوية، فكيف سيُدار هذا الإعمار؟ ومن سيتحكم بالموارد؟ وهل ستتمتع المناطق التي أصبحت بعد 8 كانون الأول تحت سيطرة السلطة بنفس فرص التنمية التي تتمتع بها العاصمة؟

إعادة الإعمار ليست مجرد مشاريع إسمنت وحديد، بل هي عملية سياسية بامتياز، ومن خلالها تُعاد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ووفي غياب الشفافية والمساءلة، تتحول هذه العملية إلى شكل جديد من الزبائنية السياسية.

الوزير قال إن سوريا “لا تريد أن تتسول بل أن تكون مصدر إلهام”، وهي عبارة شاعرية، لكنها تخفي مفارقة؛ بلد يحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة البناء، ويعتمد على مساعدات دولية، لا يمكنه أن يفرض شروطه دون إصلاح مؤسسي عميق.

المرأة والمجتمع المدني – رمزية المشاركة لا جوهرها

في حديثه عن دور النساء، استخدم الشيباني لغة تقدمية نسبياً، مؤكدا أن 60% من مستشاريه نساء، وأن الحكومة “لا تخشى من مناقشة دور المرأة”، وهذه المقاربة، على إيجابيتها، بقيت رمزية، وأقرب إلى الاستعراض من السياسات الفعلية.
الخطاب الجديد يحاول الإيحاء بانفتاح اجتماعي ينسجم مع توقعات الغرب، لكن دون ربط واضح بين تمكين النساء والإصلاح السياسي والاقتصادي الحقيقي، فدور المرأة في بناء الديمقراطية لا يُقاس بعدد المستشارات، بل بمدى حضورها في المؤسسات المنتخبة والقرار الاقتصادي والاجتماعي.

العدالة، الذاكرة، والمستقبل

أعاد الشيباني في أكثر من موضع التأكيد على أن سوريا لن تتعامل مع الماضي “بعاطفية”، وأنها ستحتفظ بقوانينها ومؤسساتها لتجنب الفوضى، وهذه الفكرة، وإن بدت واقعية، تنطوي على خطر عميق، فالمجتمعات الخارجة من الصراع تحتاج إلى ذاكرة بقدر ما تحتاج إلى إصلاح، وتجاهل الماضي بدعوى الواقعية يعني إعادة إنتاجه في شكل جديد.

الانتقال السياسي الناجح ليس فقط في نقل السلطة، بل في نقل الأخلاق السياسية من منطق الولاء إلى منطق المواطنة، ومهما حاول الوزير أن يقدم نفسه كصوت العقلانية والاعتدال، فإن شرعية حكومته ستبقى رهينة لقدرتها على تحقيق العدالة والمشاركة الحقيقية، لا فقط على تحسين صورتها في المحافل الدولية.

سوريا بين الرغبة في السلام وذاكرة العاصفة

خطاب أسعد الشيباني في لندن لا يمكن إنكاره كعلامة فارقة في الخطاب السوري الرسمي، فهو أول خطاب منذ سنوات يصدر عن مسؤول سوري رفيع يتحدث بلغة المصالحة والتنمية لا المقاومة والانفتاح، وفي جوهره، لا يزال في طور التجريب، وأشبه بمسودة مشروع وطني لم تكتمل ملامحه بعد.

إن مستقبل سوريا، كما يراه الشيباني، يقوم على ثلاث ركائز: البراغماتية السياسية، والإصلاح التدريجي، والانفتاح الدولي، وهذه الركائز لن تصمد دون إصلاح مؤسساتي عميق يضمن الفصل بين السلطة والمجتمع، ويمنح المواطنين الإحساس بأنهم شركاء حقيقيون لا متفرجون على صفقات السلطة الجديدة.

فبين لغة التطمين التي يستخدمها الشيباني، والواقع الذي يعيشه السوريون في الداخل والخارج، مسافة طويلة لا يمكن ردمها بالكلمات، بل بالثقة التي لا تُستعاد بالتصريحات، بل بالممارسة.

سوريا الجديدة: تحليل خطاب أسعد الشيباني

سوريا الجديدة بين الخطاب البراغماتي والمأزق البنيوي

قراءة في خطاب وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في “تشاتام هاوس” البريطاني

من على منبر “تشاتام هاوس” البريطاني، حاول وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن يرسم ملامح “سوريا الجديدة”، وجاءت كلماته حذرة ومثقلة بتاريخ من الدم والحطام.

بدا الشيباني كمن يحاول أن يقدّم للعالم رواية جديدة عن بلده، رواية تتجاوز الاستقطاب الأخلاقي والسياسي دون أن يقطع تماما مع ذاكرة الخراب، لكن خلف اللغة المصقولة يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام خطاب سياسي جديد يعكس تحولا حقيقيا في بنية الحكم السوري، أم أمام عملية تجميل بأدوات أكثر عصرية؟

البراغماتية السياسية

  • تركيز على “الاحترام المتبادل” و”البراغماتية الواقعية”
  • خروج ظاهري عن خطاب الصمود والممانعة
  • توجه نحو المستثمرين أكثر من الدبلوماسيين
  • ضرورة سياسية أكثر منها خياراً إيديولوجياً

العدالة الانتقالية

  • تحدث عن لجان تحقيق وزيارات للباحثين
  • غياب خطة وطنية مكتملة للمصالحة
  • عدم الفصل بين من مارس الانتهاك ومن يمثل الدولة اليوم
  • استمرار أنماط الانتهاكات في الحاضر

التعددية والطائفية

  • استخدام مفردات القاموس الديمقراطي الغربي
  • غياب رؤية مؤسساتية لبناء الثقة بين المكونات
  • تركيز على الأدوات الأمنية بدلاً من المصالحة الوطنية
  • عدم وضوح النموذج الفكري للدولة المدنية

السياسة الخارجية

  • محاولة تحقيق “الحياد النشط” في الإقليم
  • عدم الرغبة في أن تكون “ساحة لوكالات الآخرين”
  • غياب مؤسسات خارجية فاعلة لتحويل الخطاب إلى تفاهمات
  • بقاء الخطاب وظيفياً يهدف لكسب الوقت والشرعية

إعادة الإعمار

  • تركيز على الفرص الاستثمارية وتعديل قوانين الاستثمار
  • غياب الرؤية البنيوية لإدارة عملية الإعمار
  • عدم وضوح آليات توزيع الموارد بين المناطق
  • تحول الإعمار إلى زبائنية سياسية في غياب الشفافية

دور المرأة والمجتمع المدني

  • ادعاء أن 60% من مستشاريه نساء
  • بقاء المشاركة رمزية دون سياسات فعلية
  • عدم ربط تمكين المرأة بالإصلاح السياسي الحقيقي
  • استخدام خطاب انفتاحي يلائم توقعات الغرب

الاستنتاج الرئيسي

خطاب أسعد الشيباني في لندن يمثل علامة فارقة في الخطاب السوري الرسمي، لكنه يبقى في طور التجريب وأشبه بمسودة مشروع وطني لم تكتمل ملامحه بعد.

الركائز الثلاث التي يقوم عليها مستقبل سوريا كما يراها الشيباني – البراغماتية السياسية، والإصلاح التدريجي، والانفتاح الدولي – لن تصمد دون إصلاح مؤسساتي عمق يضمن الفصل بين السلطة والمجتمع، ويمنح المواطنين الإحساس بأنهم شركاء حقيقيون لا متفرجون على صفقات السلطة الجديدة.

بين لغة التطمين التي يستخدمها الشيباني، والواقع الذي يعيشه السوريون في الداخل والخارج، مسافة طويلة لا يمكن ردمها بالكلمات، بل بالثقة التي لا تُستعاد بالتصريحات، بل بالممارسة.

تحليل خطاب أسعد الشيباني في “تشاتام هاوس” البريطاني – رسم بياني تفاعلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *