في سوريا ليست الحدود خطوطا مرسومة على الخرائط بقدر ما هي نتاج تواريخ معقّدة وأمزجة سلطات متغيرة، وفي الحالة اللبنانية–السورية، تتحول الجغرافيا إلى مرآة للسياسة، ويغدو كل واد وكل سفح جبلي موضع تأويل سيادي.
منذ قرن من الزمان، بقي الخط الفاصل بين لبنان وسوريا في المنطقة الرمادية، لا هو حقيقي بما يكفي ليضمن السيادة، ولا هو متهاو بما يسمح بالاندماج الكامل، وتعود فرنسا، وارثة الانتداب التاريخي، لتعرض وساطتها من جديد في محاولة لإيقاظ هذه الجغرافيا النائمة وترميم منطق الحدود الذي تعطل منذ ولادة الدولتين.
الجغرافيا السياسية للغموض: حين يتحوّل الخط إلى أداة سلطة
يقول إيف لاكوست في كتابه الشهير La géographie, ça sert, d’abord, à faire la guerre (“الجغرافيا تُستَخدم قبل كل شيء لصنع الحرب”) إن الخرائط ليست حيادية؛ إنها أدوات سلطة، وهذه المقولة تنطبق بدقّة على الحدود اللبنانية–السورية، فترسيمها لم يكن يوما مسألة تقنية، بل قرارا سياسيا تتنازع فيه سرديتان:
- سردية لبنانية تبحث عن تثبيت سيادتها وتحرير نفسها من إرث الوصاية السورية.
- وسردية سورية تعتبر الغموض الحدودي وسيلة لاستمرار النفوذ والمرونة الاستراتيجية.
منذ رسم الانتداب الفرنسي خطوط لبنان الكبير سنة 1920، بقيت تلك الخطوط أقرب إلى “حدود وظيفية” لا “حدود نهائية”، فالجبال التي تشكّل العمود الفقري الجغرافي بين البقاع اللبناني وحمص السورية كانت دوما مجالا مفتوحا للتجارة غير الرسمية والتهريب والعبور الاجتماعي، فصُمّمت لتكون حدودا قابلة للتفاوض، لا للفصل القاطع.
مع انسحاب فرنسا من المشرق عام 1946، ورث البلدان خرائط أكثر غموضا من أن تُطبّق، وظلّت الخرائط تُستخدم كوثائق للتهديد أو للمرافعة الدبلوماسية، لا كأدوات تنظيم للسيادة.
من مزارع شبعا إلى عرسال: نقاط التوتّر الدائمة
الحدود الشرقية للبنان ليست فقط جغرافيا، بل جغرافيا مسلّحة؛ تمتد من الشمال في منطقة وادي خالد إلى الجنوب في مزارع شبعا، مرورا بقمم القلمون وجرود عرسال، وهذه المنطقة تمثّل “خطا جغرافيا هشا”، يسكنه بشر أكثر مما تسكنه الدول.
في مزارع شبعا، يتقاطع الجغرافي بالعسكري، فالمنطقة التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بعد انسحابها من الجولان باتت رمزا مزدوجا؛ لبنانيا للمطالبة بالتحرير، وسوريا للمناورة السياسية، وغياب الترسيم الرسمي بين لبنان وسوريا جعل هذه المزارع ورقة مفتوحة أمام كل الأطراف، فـ”إسرائيل” ترفض الانسحاب بحجة أنها سورية، وسوريا لا تؤكد لبنانيتها لتحتفظ بورقة الضغط، ولبنان يعلن تمسكه بها كجزء من أراضيه.
إنها حالة نموذجية من “الحدود المعلّقة” بوصفها نقاط الارتكاز الرمزية التي تُستخدم لإدارة الصراعات لا لحلها”.
الوساطة الفرنسية: بين الأرشيف والجيوسياسة
العودة الفرنسية إلى الملف في عام 2025 ليست مجرد مبادرة دبلوماسية؛ إنها إعادة تموضع جيوسياسي في المشرق، ففرنسا، التي كانت صانعة الخرائط الأولى في بلاد الشام، تعود اليوم لتقدّم “الأرشيف” بوصفه وسيلة للتقريب بين الطرفين.
سلّمت باريس لبنان خرائط الانتداب القديمة، في خطوة رمزية تُعيد الاعتراف بوظيفتها التاريخية كـ”حارسة حدود المشرق”، لكن القراءة الجيوسياسية لهذه الخطوة تتجاوز الرمزية، ففرنسا تسعى إلى ترسيخ نفسها وسيطا محايدا في منطقة تتقاسمها اليوم موسكو وواشنطن وأنقرة وتل أبيب.
الجغرافيا ليست ماضيا بل أداة لتشكيل القوة في الحاضر، ومن هذا المنظور، يمكن فهم المبادرة الفرنسية على أنها محاولة لخلق “حدود وظيفية جديدة” تُعيد تنظيم النفوذ في شرق المتوسط، وخط بيروت–دمشق لم يعد مجرد طريق تجاري، بل محور توازن بين معسكرين؛ لبنان المتعثر اقتصاديا والمشدود إلى الغرب، وسوريا التي تسعى لاستعادة شرعيتها الإقليمية.
الترسيم كفعل سيادي وكشف للأزمات البنيوية
الترسيم، بمعناه القانوني، ليس مجرد تحديد نقاط جغرافية، بل إعادة تعريف للسيادة ذاتها، ففي لبنان، يتم تعريف السيادة غالبا في مواجهة “إسرائيل”، بينما تبقى العلاقة مع سوريا منطقة رمادية، وقبول السلطة في دمشق بأي ترسيم رسمي يعني اعترافا نهائيا بانفصال الكيانين السياسيين، وهو ما تجنّبته سوريا على مدى عقود.
لكن في المقابل، يعاني لبنان من ضغوط اقتصادية وأمنية تجعل من “الحدود المرسومة” ضرورة حيوية:
- للحدّ من التهريب الذي يكلّف الدولة مليارات الدولارات سنويا.
- لضبط حركة اللاجئين السوريين التي تحوّلت إلى ملف داخلي حساس.
- ولتثبيت السيادة القانونية في مواجهة اتهامات “إسرائيل” بأن لبنان “كيان بلا حدود واضحة”.
الترسيم يصبح مشروع إعادة تعريف للهوية السياسية اللبنانية نفسها، فالحدود ليست فقط جغرافية، بل أيضا حدودا بين نظامين، واقتصادين، ومفهومين للشرعية.
خرائط الذاكرة: عندما تستيقظ الوثيقة من سباتها
تُعدّ الخطوة الفرنسية بتقديم خرائط الانتداب مثالا لما يسميه لاكوست “الجغرافيا المؤرشفة”، أي الجغرافيا التي تعود لتؤدي وظيفة سياسية بعد سباتها الطويل، فهذه الخرائط التي رُسمت بأدوات استعمارية تُستحضر اليوم كوثائق سيادية.
لكن المفارقة أن الخرائط ذاتها تولّد نزاعات جديدة، فكل خطّ فيها يعيد طرح السؤال؛ فلمن هذه الأرض؟ للمجتمع المحلي الذي سكنها؟ أم للدولة التي خُطّت حدودها بالمسطرة؟
فرنسا، عبر هذه المبادرة، لا تعيد فقط تقديم وثائق، بل تذكّر الطرفين أن من يرسم الخرائط يملك القدرة على إعادة تعريف التاريخ، وهذا يعيدنا إلى فكرة من يملك الخريطة يملك أداة السلطة.
العوائق البنيوية أمام الترسيم
رغم الرمزية القوية للمبادرة الفرنسية، يظل الواقع الميداني معقدا:
- سلطات دمشق لم تُبدِ حتى الآن استعدادا واضحا للانخراط في عملية تقنية بإشراف خارجي، خاصة في ظل تداخل الحسابات الإقليمية.
- بعض المناطق الحدودية مأهولة بعشائر تمتد جذورها على جانبي الحدود، ما يجعل أي خط ترسيم عمليا تقسيما اجتماعيا لا جغرافيا فقط.
- حزب الله، بوصفه لاعبا أساسيا في المشهد اللبناني–السوري، يرى أن الترسيم يحدّ من حرية الحركة الاستراتيجية بين الجبهتين.
- أما في الداخل اللبناني، فالقوى السياسية منقسمة بين من يرى في الترسيم خطوة نحو السيادة، ومن يخشى أن يكون تنازلا عن “العلاقة الخاصة” مع سوريا.
الدلالات الإقليمية: من “الحد” إلى “المجال”
لا وجود لحدود ثابتة في المشرق بل “مجالات تأثير متحركة”، وما تقوم به فرنسا الآن هو محاولة لتحويل “المجال” السوري–اللبناني إلى “حدّ قانوني”، وهذا التحوّل يعني الانتقال من منطق السيطرة المرنة إلى منطق السيادة الصلبة.
هذا المسار يصطدم بحقيقة أن المنطقة كلها تعيش أزمة في تعريف الدولة ذاتها، فحين تكون الدولة ضعيفة، لا يمكن للحدود أن تكون قوية، وأي ترسيم لا بد أن يرتكز على إعادة بناء الدولة اللبنانية والسورية معا، فأي ترسيمٍ لا يستند إلى بناء دولة فاعلة يظلّ مجرّد خطوطٍ على الورق.
الجغرافيا كأداة إعادة ترتيب النظام الإقليمي
الوساطة الفرنسية في ملف ترسيم الحدود اللبنانية–السورية تُظهر أن الجغرافيا لا تموت، بل تنتظر لحظتها السياسية لتعود فاعلة، فالمسألة ليست أين تمرّ الحدود، بل كيف تُستخدم، والترسيم، في جوهره، ليس تصحيحا للخرائط، بل إعادة توزيع للقوة، فمن يرسم الخط، يحدّد المصالح التي تمرّ عبره.
ترسيم الحدود اللبنانية–السورية: الجغرافيا التي تصحو من سباتها السياسي
تحليل تفاعلي للعلاقة المعقدة بين الجغرافيا والسياسة في منطقة الحدود اللبنانية-السورية
🗺️ الجذور التاريخية للحدود
⚖️ مواقف الأطراف من الترسيم
🌍 الفاعلون الإقليميون والدوليون
📊 تحديات عملية الترسيم
🕰️ تطور النزاع الحدودي
🔮 سيناريوهات مستقبلية
الجدول الزمني للنزاع الحدودي
1920
رسم الانتداب الفرنسي خطوط لبنان الكبير، وإنشاء “حدود وظيفية” غير نهائية بين لبنان وسوريا.
1946
انسحاب فرنسا من المشرق ووراثة البلدين لخرائط غامضة لم تُطبق بشكل كامل.
1967
احتلال إسرائيل لمزارع شبعا بعد انسحابها من الجولان، مما خلق نزاعًا ثلاثيًا على المنطقة.
1976-2005
الوجود العسكري السوري في لبنان وتعليق قضية ترسيم الحدود.
2025
عودة فرنسا كوسيط بتقديم خرائط الانتداب القديمة في محاولة لإحياء عملية الترسيم.
نقاط التركيز الرئيسية
🗺️ الجغرافيا السياسية للغموض
الحدود لم تكن يوماً مسألة تقنية بل قراراً سياسياً تتنازع فيه سرديتان: لبنانية تبحث عن تثبيت السيادة، وسورية تعتبر الغموض وسيلة لاستمرار النفوذ.
⚡ نقاط التوتر الدائمة
من مزارع شبعا إلى عرسال، تمثل هذه المناطق “خطاً جغرافياً هشاً” يسكنه بشر أكثر مما تسكنه الدول، وتتحول إلى نقاط ارتكاز رمزية لإدارة الصراعات.
🔄 الوساطة الفرنسية
العودة الفرنسية إلى الملف ليست مجرد مبادرة دبلوماسية بل إعادة تموضع جيوسياسي في المشرق، باستخدام الأرشيف كوسيلة للتقريب بين الطرفين.
🚧 العوائق البنيوية
غياب الاستعداد السوري، تمدد العشائر عبر الحدود، موقف حزب الله، والانقسام الداخلي اللبناني تشكل عوائق كبرى أمام أي ترسيم.
الخاتمة: الجغرافيا كأداة إعادة ترتيب النظام الإقليمي
الوساطة الفرنسية في ملف ترسيم الحدود اللبنانية-السورية تُظهر أن الجغرافيا لا تموت، بل تنتظر لحظتها السياسية لتعود فاعلة. فالمسألة ليست أين تمرّ الحدود، بل كيف تُستخدم، والترسيم، في جوهره، ليس تصحيحاً للخرائط، بل إعادة توزيع للقوة.
فمن يرسم الخط، يحدّد المصالح التي تمرّ عبره.

