سوريا من المحور إلى الممر: الدور الوظيفي لدمشق في هندسة الحرب الإقليمية المقبلة

في لحظة إقليمية مفعمة بالتحولات، تقف سوريا على حافة إعادة تعريف وجودها في الخريطة السياسية للشرق الأوسط.
بعد عقد من الانهيار المتدرّج، وتراجع كل مشاريع “المحاور”، تبدو دمشق الآن في موقع لا يُمكنها من تقرير مسار الحرب أو السلم، بل يجعلها جزءا من هندسة أمنية جديدة تُعاد صياغتها خارج حدودها.
إنها المرة الأولى منذ سبعينيات القرن الماضي التي تجد فيها الدولة السورية نفسها بلا تحالف ثابت، وبلا مظلة أيديولوجية تستند إليها، وبلا مشروع توسّع أو مقاومة؛ بل داخل منظومة إقليمية تبحث عن وظيفة لها في لعبة توازنات كبرى.

من مركز الصراع إلى عقدة ضبطه

في تصريحات حديثة للمبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك، أشار إلى احتمال أن تنخرط دمشق في مواجهة غير مباشرة مع القوى التي كانت حتى وقت قريب تُعدّ من أقرب حلفائها.
لم تأتِ التصريحات من فراغ؛ فهي تعبّر عن رؤيةٍ في أوساط سياسية واقتصادية غربية تعتبر أن سوريا، بعدما فقدت قدرتها على المبادرة، يمكن أن تؤدي دورا مختلفا في “منع تمدد الفوضى بدلا من إنتاجها، وهذه الرؤية ليست مجرّد تكهنات.
التوازنات الميدانية في المشرق باتت هشّة إلى درجة أن أي اشتعال على خط لبنان–العراق–غزة يجعل من الجغرافيا السورية الممر الإجباري لأي صراع جديد.
وبينما تنشغل القوى الكبرى بتقليص انخراطها المباشر في المنطقة، تُترك لسوريا مهمة ضبط هذا الفضاء المتصدّع، ولو بثمن عال في السيادة والقرار.

تحوّل قسري لا خيار سياسي

ليس في الأمر تحوّلٌ استراتيجي إرادي من جانب سلطات دمشق، بل انزلاقٌ وظيفي تفرضه الوقائع، فالدولة التي خرجت من حرب مدمّرة لم تعد قادرة على لعب دور الفاعل الإقليمي الذي كان يوما جزءا من معادلات النفوذ.
هي اليوم دولة محكومة بالحدود لا بالقضية، وبالاقتصاد لا بالشعار، وبحسابات البقاء لا بالتحالفات، فجرى تهميش الخطاب الأيديولوجي الذي طبع السياسة السورية لعقود، وحلّت مكانه براغماتية ميدانية “مستحدثة”.
ما يحرّك السياسة السورية الآن ليس مفهوم “المقاومة” أو “التحالف”، بل ضرورات إدارة البقاء داخل شبكة ضغوط متعددة المصادر:

  • موسكو التي تريد استقرارا عسكريا يضمن حضورها.
  • العواصم العربية التي تشترط إعادة التموضع كمدخل للانفتاح الاقتصادي:
  • واشنطن وتل أبيب اللتين تنظران إلى دمشق بوصفها نقطة ارتكاز في احتواء الفصائل الموالية لإيران.
  • تركيا التي تريد حماية حديقتها الخلفية والقضاء على أي حلم كردي بإنشاء دولة، وطموحات عثمانية بالحضور في سوريا والاستيلاء على خطوط التجارة الأساسية بدء من حلب.

الجغرافيا تفرض الدور

بحسب منطق الجغرافيا السياسية الذي يشدد عليه روبرت كابلان، الدول لا تختار أدوارها، بل تتشكّل أدوارها من حدودها ومحيطها.
وسوريا، الواقعة عند مفترق ثلاثة أقاليم متوترة، بلاد الرافدين وبلاد الشام والأناضول، لا يمكن أن تبقى خارج التفاعلات، لكنها أيضا لا تملك القوة للسيطرة على مساراتها.

يصبح دورها الجديد حتى تحافظ على بقاء السلطة الحالية أن تكون الممر؛ مساحة عبور للنفوذ، ومجال مراقبة للتفاعلات، ومنطقة عازلة بين تناقضات لا تنتمي إليها بالكامل، وبهذه الصيغة تُستَخدم الجغرافيا السورية كوسيط جغرافي لا كلاعب سياسي.
فالحدود الغربية مع لبنان تتحوّل إلى خط ضغط على الأحزاب العقائدية المسلحة (حزب الله)، والحدود الشرقية إلى ممر مراقَب بين النفوذ الإيراني والعراقي (الحشد الشعبي)، والشمال إلى ساحة توازن بين المصالح التركية والروسية.
كل محور من هذه المحاور يعيد تعريف دمشق لا باعتبارها “مركز القرار”، بل باعتبارها نقطة التقاءٍ بين إرادات متنافسة.

انسحاب هادئ من التحالفات القديمة

لم يكن الانفصال السوري عن تحالفاته السابقة حدثا فجائيا، بل عملية بطيئة اتخذت شكل إعادة ترتيب الأولويات.
منذ عام 2022، تراجعت المشاركة العسكرية المباشرة للقوات المرتبطة بإيران داخل الأراضي السورية، وتزايدت المؤشرات على أن دمشق لم تعد تسمح بحرية الحركة المطلقة لتلك التشكيلات، بسبب الضغوط العربية، وتردي الوضع الاقتصادي والوعود بالانفراج.
في المقابل، برزت إشارات انفتاح على القنوات الدبلوماسية العربية، خصوصا مع الرياض والقاهرة، بوصفهما طرفين قادرين على فتح الأبواب الاقتصادية المقفلة، وهذه التحولات لم تكن انعطافا سياسيا بقدر ما كانت تحوّلا في طبيعة الاعتماد، فبعدما كان بقاء النظام مرتبطا بالدعم العسكري الإيراني، أصبح الآن مرهونا بالغطاء المالي العربي وبضمانات أمريكية للحفاظ على توازن داخلي هش.
ولأن المصالح لا الأيديولوجيا هي من يحكم المسار، فإن سلطة دمشق تبدو مستعدة للانفصال التام عن أي تحالف لا يمنحها استقرارا في الداخل، حتى لو كان ذلك على حساب إرثٍ سياسي لسوريا استمر عقودا.

سوريا بين قوتين متناقضتين

لم تعد دمشق تعمل تحت ضغط مزدوج كما في السنوات الماضية، بل ضمن فراغ تدريجي تركه تراجع الانخراط الروسي وتقدّم مسار إعادة الإدماج العربي المشروط، وفي هذا الفراغ، وجدت السلطة نفسها أمام خيارٍ واحد؛ التحول إلى نقطة توازن مؤقتة تتيح لكل طرف أن يمرّ عبرها دون أن يبتلعها.
وبذلك لم تعد سوريا طرفا في الصراع بعد الآن، لكنها أيضا ليست خارج حدوده؛ إنها المنطقة الرمادية التي يتقاطع فيها الانسحاب الروسي والانفتاح العربي.

في هذا المدى الرمادي، وجدت نفسها مضطرة إلى أداء دور وسيط سلبي، أي الحياد النشط، فلا انخراط مباشر في الصراعات العقائدية، ولا مواجهة علنية مع القوى الميدانية المتوغلة في أراضيها.

غير أن هذا الدور ليس مستقرا؛ فكل تصعيد في لبنان أو غزة أو العراق يجعل من الأراضي السورية نقطة عبور أو ساحة ردّ محتملة.
وهنا يتبدّى الخطر الحقيقي في أن تتحول دمشق من ساحة مضبوطة إلى منطقة استنزاف بالوكالة، حيث تُدار الحروب دون إعلانها، وتُستخدم الدولة كغطاء لمعادلات أمنية لا تملك قرارها.

مقاربة الحرب القادمة

في حال تحقق السيناريو الذي تحدّث عنه باراك باندلاع مواجهة إقليمية واسعة؛ لن تكون الحرب في شكلها التقليدي بين دول وجيوش، بل على هيئة شبكة من الصدامات المتنقلة بين الفصائل والعواصم الحدودية.
سوريا، في هذا السياق، لن تدخل الحرب بوصفها طرفا، بل بوصفها ساحة عبور للصراع.
فهي تمتلك خطوط تماس مع كل الجبهات المحتملة؛ من الجنوب المتاخم لإسرائيل، إلى الشمال الملاصق لتركيا، إلى الشرق المفتوح على العراق، ووظيفتها، كما تراها القوى الكبرى، هي منع هذا التشظي من التحول إلى فوضى غير قابلة للضبط.
لكن التاريخ القريب يقول إن هذه الوظيفة ليست قابلة للاستدامة، فكل من يُستعمَل كأداة توازن مؤقت، يُستَبدل حالما تتغير المعادلات، وتبدو سوريا اليوم دولة قائمة بالضرورة، لا بالاختيار؛ تُبقي الصراع تحت السقف، لكنها لا تملك القدرة على إيقافه.

نحو تعريف جديد للدولة السورية

التحول الجاري لا يمكن قراءته فقط من زاوية السياسة الخارجية، بل من زاوية إعادة تعريف الدولة ذاتها، فمنذ أن فقدت دمشق مشروعها القومي القديم، أصبحت السلطة تُبنى على منطق الإدارة الأمنية والاقتصاد المقيد، فلم تعد سوريا دولة موقف، بل دولة تكيّف؛ تحاول النجاة في محيط من الأزمات لا يرحم من يتردد.

إن جوهر الدور الجديد يكمن في التحول من مركز قرار إلى عقدة مراقبة، فالدولة التي كانت ترفع شعار “المقاومة” باتت تُقاس فاعليتها اليوم بقدرتها على ضبط حدودها ومنع تسلل النار إليها.
وإذا كان ذلك يوفّر لها بقاءً مؤقتا، فإنه في الوقت نفسه يضعها في موقع هشّ، لأنها تعتمد على منظومة خارجية لتبرير وجودها.

سوريا في هندسة الصراع المقبل

تاريخ الشرق الأوسط يُظهر أن الدول التي تفقد قدرتها على المبادرة تتحوّل إلى أدواتٍ في معارك غيرها، وسوريا، في وضعها الحالي، تمثل هذه الحقيقة القاسية بكل تفاصيلها.
لا تملك القوة لتغيير قواعد اللعبة، ولا تملك الترف للانسحاب منها، ومع ذلك، فإن وجودها، بموقعها وحدودها وشبكة علاقاتها، يجعلها ضرورة لكل من يريد إدارة التوازنات لا حسمها.

في اللغة الجيوسياسية فإن سوريا أصبحت نقطة التقاءٍ جبرية بين القوة والفوضى، فكل حرب تمرّ من حولها لا بد أن تمرّ من داخلها، وكل تسوية تُرسم للمنطقة لا بد أن تبدأ من حدودها.
هكذا تُختزل وظيفتها في الصراع القادم؛ أن تظل الممر الذي يتيح للآخرين عبور الحرب، دون أن تملك هي طريق الخروج منها.

سوريا من المحور إلى الممر

سوريا من المحور إلى الممر

الدور الوظيفي لدمشق في احتمالات الحرب الإقليمية المقبلة

التحول الجيوسياسي لسوريا

تتحول سوريا من مركز قرار إلى عقدة مراقبة في الخريطة الجيوسياسية الإقليمية، حيث تفقد قدرتها على المبادرة لتصبح ممرًا إجباريًا للصراعات.

القوى المؤثرة على السياسة السورية

تتأثر السياسة السورية بعدة قوى إقليمية ودولية تتنافس على النفوذ، مع تراجع قدرة دمشق على التحكم في مسار الأحداث.

الحدود السورية: نقاط التوتر

أصبحت الحدود السورية نقاط توتر ومراقبة بين القوى الإقليمية المتنافسة، مما يحد من سيادة الدولة.

العوامل المحركة للتحول

الجغرافيا السياسية

موقع سوريا عند مفترق ثلاثة أقاليم متوترة يحدد دورها الجديد

الضرورات الاقتصادية

التحول من الخطاب الأيديولوجي إلى براغماتية إدارة البقاء

توازنات القوى

انسحاب القوى الكبرى وترك مهمة ضبط الفضاء المتصدع لسوريا

إعادة الإدماج العربي

الانفتاح على القنوات الدبلوماسية العربية كمدخل للانفتاح الاقتصادي

التطور الزمني للدور السوري

ما قبل 2011

دولة محورية في “محور المقاومة” مع مشروع توسع أيديولوجي

2011-2020

مرحلة الانهيار والصراع الداخلي مع فقدان السيطرة على أجزاء من الأراضي

2020-2023

بداية التحول من مركز الصراع إلى عقدة ضبطه مع تراجع المشاريع الأيديولوجية

2024 وما بعده

الدور الجديد كمنطقة عبور ومراقبة في الصراعات الإقليمية

الخلاصة: سوريا في هندسة الصراع المقبل

سوريا اليوم تمثل نموذجًا للدولة التي تفقد قدرتها على المبادرة فتصبح أداة في معارك غيرها. لم تعد تملك القوة لتغيير قواعد اللعبة، ولا الترف للانسحاب منها. ومع ذلك، فإن وجودها بموقعها وحدودها يجعلها ضرورة لكل من يريد إدارة التوازنات لا حسمها.

في الصراع الإقليمي المقبل، ستؤدي سوريا دور الممر الإجباري الذي يتيح للآخرين عبور الحرب، دون أن تملك هي طريق الخروج منها. هذا التحول القسري يعيد تعريف الدولة السورية من “دولة موقف” إلى “دولة تكيّف”، تحاول النجاة في محيط من الأزمات لا يرحم من يتردد.

تحليل جيوسياسي مستند إلى مقال “سوريا من المحور إلى الممر”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *